ولد في مدينة حلب من سورية عام 1370هـ الموافق 1951م، دخل كليّة الشريعة في جامعة دمشق عام /1969/م وتخرّج فيها عام /1974/ م. عمل إماماً وخطيباً في بعض المساجد في حلب، كما عمل في التعليم في بعض المدارس المتوسّطة والثانويّة التابعة لوزارة التربية . ثمّ عمل مدرّساً في الثانويّة الشرعيّة. بعد خروجه من سورية قدم إلى المملكة العربيّة السعوديّة بتاريخ 1403هـ، وعمل في مدارس الفلاح أحد عشر عاماً ، ثمّ تركها،
مِن وحي الهجرة النبويّة: دروس وعبر
الهِجرة النبويّة المُباركة، وكذلك هِجرة الأنبياء من قبل كانت ولا تزال نبراساً للأمّة، ومنارة حضاريّة للأجيال، تعيش عبق ذكرياتها كلّما تجدّدت في حياتها، بما تتعرّض له الأمّة من ألوان البلاء، وعلى رأس ذلك: التهجير من الأوطان، والتشريد في الأرض بما يشعر أولئك المُشرّدين والمُهجّرين أنّهم الجناح المَهيض، والعُنصرُ المَكروه حيثما حلّوا أو ارتحلوا.. وربّما يزيد الأمر عليهم سوءًا وضيقاً أن ينظر إلى المُهاجر نظرة استذلال كذلك فيما يحلّ من البلاد، فيزداد تأزّماً وبؤساً..
فصلّى الله وسلّم وبارك على صاحب الهجرة الشريفة العبقة، بالدروس والعبر.. الذي كانت هجرته مدرسة للإنسانيّة في كلّ مكان.. وأعطى بسيرته العطرة للهجرة بعداً إيجابيّاً مختلفاً غاية الاختلاف عمّا يعرفه الناس ويكابدونه..
وسلام عليك أيّها المُهاجر إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم.!! فهذا قدرك الكريم، فكن راضياً به تكن على خطى الأنبياء.. وتكن من السعداء.. أو تسخّط فلن يتغيّر في قدرك شيء، وستشقي نفسك بلا ثمرة، ولا جزاء..
وتنطق دمعة مهاجر فتقول: تتقاذفني الأقدار من أرض إلى أرض.. وأقرأ في وجوه الناس الاستصغار والازدراء، والتضييق في كلّ ميدان، ومن تجرّأ منهم صرّح لي بالكراهية لكلّ شيء يتعلّق بشخصي ووجودي.. فلا حقّ لي في شيء ممّا يتمتّع به الناس من حقوق إنسانيّة، يعترف بها العقلاء الأسوياء من البشر، ولكنّها عند أكثر الناس: (حبر على ورق)، لا وزن لها، ولا اعتراف بها.. فأنا في نظر من حولي سبب كلّ شَرّ وبلاء عليهم، وعلى كلّ مجتمعهم..
ورويدك أيّها المُهاجر إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم: أقليل في نظرك من قدر التكريم أن تكون مهاجراً على خطى الأنبياء والمُرسلين، والصالحين من بعدهم. ؟! إنّه والله شرف لا يوازيه شرف، ونعمة بعد الإسلام هي أجلّ النعم.. ولكن لمَن عرف قدرها، واحتسب عند ربّه أجرها.. فالهجرة يا صاحبي فطرة في الإنسان على مدار وجوده في هذه الأرض.. وكم وكم كان من ورائها الخير الكبير، والفضل العميم للإنسان نفسه، ولبني جنسه؟!! وكم كان من ورائها العزّ والشرف، والمُلك والسيادة !؟ أوما علمت ورأيت نماذج شتّى من المُهاجرين الذين كانوا فِي الأَرْضِ مستضعفين، كيف أصبحوا أئمّة وقادة، لهم العزّة والسيادة؟! كمَا يقول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} [القصص:5].
ثمّ لا تنس أيّها المُهاجر أنّ القهر والظلمَ، وانتقاص الحقوق، ومحاولات التهميش عن الحياة، التي تواجهها في مختلف المُجتمعات.. كلّ ذلكَ يولّد التحدّي والتحفيز، وهو من أسرار الإبداع والتألّق، فلا يضيرك ذلك شيئاً، ولا يعوّق نجاحك في الحياة.. وما من شرّ محض في أقدار الله جلّ وعلا.. ورُبّ ضارّة نافعة بإذن الله. .
ثمّ لك أن تتساءل: كيف عالجَ القُرآن هذه الهموم والهواجس للمُهاجرين؟!
فلا شكّ أنّ للإخراج من الديار لشأنًا أيّ شأن في القُرآن، فهو يُبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه، وهو يقرنه بالقتل تشنيعاً عليه، وفضحاً وتشويهاً له، وإنّ له في نفوس الأحرار لأثرًا يتعاصى عن الصفح والعفو، وإن له في نفس سيّد المُرسلين لوقعًا مؤلمًا، من يوم قال له ورقة بن نوفل: " ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك"؟! فقال: " أوَ مخرجيَّ هم؟" إلى يوم أخرجه قومه بغير حقّ، وسمّى القُرآن الصحابة المُهاجرين، ونوّه بالهجرة، وحضّ عليها، وقرنها بالإيمان، وجعلها من معالم صدقه ورسوخه، كما جعلها شرطاً في الولاية بين المُؤمنين فقال تعالى: {... وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ... }[الأنفال:72].
وبعض الحكمة في ذلك أنّ التذكير بالإخراج من الديار يُذكي الحماسة في القلوب، ويُبقي الحنين إلى الديار متواصلًا، ويُنمّي تحدّي الباطل ومقاومته، وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المُغرية البديعة، هو جمع لأنصار الحقّ في مأرز واحد بعد تشتّتهم، لينسجموا فيما بينهم، ويستعدّوا إلى الرجعة والكرّة. والأرض لله جلّ وعلا يورثها من يشاء من عباده..
وانظر إلى مسار غزوة بدر والحديبية وعمرة القضاء تجدها كلّها تعبِّر عن هذا الاتّجاه، وعن حنين إلى مكّة تدلّ مظاهره على خفاياه، ثمّ انظر أيّة ثورة تثيرها في النفوس الحرّة الأبيّة هذه الآية: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا..}، وآية: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ..}، وأمثال ذلك من الآيات. فالصدّ وَالتهجير من الديار قرين الكفر بالله تعالى والقتل، والعدوان على أهمّ حقوق الإنسان..
فمن عِبرِ الهجرة ودروسِها:
وقد تحدّث القُرآن عن الهجرة في مناسبات عديدة، ويهُمّنا هُنا إلقاء الضوء على ثلاث آيات في هذه المَقالة:
* الآية الأولى: التي فضحت تآمر المَشركين ومكرهم لقتل النبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة، قَال اللهُ تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وكذلك كلّ من كان على خطى الأنبياء معرّض للقتل في بعض الأحيان إن لم يهاجر..
* والثانية: عنايةُ الله تعالى بنبيّه صلّى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة، ونصرته له على عدوّه، وفيها تتمّة الصورة الأولى، قَال سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[التوبة:40]. ولكلّ مهاجر إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم حظّ ولا بدّ، من عناية الله تعالى وحفظه ورعايته، مهما تعرّض للشدائد والابتلاءات..
* والآية الثالثة: هي في الحديث عن وعد الله تعالى للمهاجر في سبيله بحسن العاقبة، وخيري الدنيا والآخرة، وهي آية مهمّة جدّاً فيما نحن بصدده، إذ يقول اللهُ جلّ وعلا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء:100]. وفي مقابل هذه الصورة التهديد والوعيد لمَن وجبت عليه الهجرة، فركن إلى الأرض ولم يهاجر، ورضي بالظلم والتنازل عن الحقّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)} [النساء].
وانظروا إلى هذا الوعد الإلهيّ المُوجز المُعجز: (يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) إنّ التهجير يريد العدوّ من ورائه التضييق والقهر، والإذلال والحرمان.. فتأتي الإرادة الإلهيّة للمُهجَّرين على عكس ما يريد هؤلاء بهم.. تأتيهم بأسباب المُراغمة والإذلال للعدوّ من حيث لا يتوقّع ولا يحتسب، كما تنقل المُهجَّرين إلى سعة مادّيّة ومعنويّة لم يكونوا يتوقّعونها، من بسطة العيش، وسعة الرزق، وامتداد الجاه وآفاق المَعرفة بالناس، وتهيّئ للمهاجر أسباب التألّق والنجاح بما لا يخطر له على بال..
قَالَ الإمام أَبُو جَعْفَر الطبريّ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُضْطَرَبًا وَمُتَّسَعًا؛ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي السَّعَةِ، السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ، وَالغِنَى مِنَ الفَقْرِ ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّعَةُ مِنْ ضِيقِ الهَمِّ وَالكَرْبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَهْلُ الإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنَ المُشْرِكِينَ.. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي السَّعَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الرَوْحِ وَالفَرَجِ ممَّا كَرِهَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَقَامِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَيِ المُشْرِكِينَ وَفِي سُلْطَانِهِمْ. . فَكُلُّ مَعَانِي السَّعَةِ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى الرَوْحِ وَالفَرَجِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقِ العَيْشِ وَغَمِّ جِوَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَضِيقِ الصَّدْرِ بِتَعَذُّرِ إِظْهَارِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِ تَوْحِيدِهِ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ. انتهى باختصار.
قال الإمام المَاورديّ: وكلّ من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم. وأصل ذلك الرغم، وهو الذلّ. والرّغام: التراب لأنّه ذليل.
وَقالَ الإمام الزمخشَريّ: مُراغَماً مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم: الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك.
وَقال الإمام القشَيريّ فِي لطائفِ الإشارَاتِ: من هاجر في الله عمّا سوى الله، وصحّح قصده إلى الله وجد فسحة في ساحةِ الكرم، ومقيلاً في ذرى القبول، وحياة وسعة في كنف القرب. . والمَهاجر في الحقيقة من هجر نفسه وهواه، ولا يصحّ ذلك إلاّ بانسلاخه عن جميع مراداته، ومن قصده ثمّ أدركه الأجل قبل وصوله فلا ينزل إلاّ بساحات وصله، ولا يكون محطّ روحه إلاّ أوطان قربه.
وقَال الإمامُ الرازيّ، وكأَنّه يتحدَّث عَن حالِ الناس في هذا الزمَن: المَعنَى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّه إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يَجِدْ فِي أَرْضِ ذَلِكَ البَلَدِ مِنَ الخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْمِ أَنْفِ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي بَلْدَتِهِ الأَصْلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا اسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي تِلْكَ البَلْدَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ الخَبَرُ إِلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ خَجِلُوا مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَهُ، وَرَغِمَتْ أُنُوفُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا قَالُوهُ واللَّه أَعْلَمُ. وَالحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كُنْتَ إِنَّمَا تَكْرَهُ الهِجْرَةَ عَنْ وَطَنِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقَعَ فِي المَشَقَّةِ وَالمِحْنَةِ فِي السَّفَرِ، فَلَا تَخَفْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيكَ مِنَ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ وَالمَرَاتِبِ العَظِيمَةِ فِي مُهَاجَرَتِكَ مَا يَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ أَعْدَائِكَ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِسَعَةِ عَيْشِكَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الآيَةِ ذِكْرَ رَغْمِ الأَعْدَاءِ عَلَى ذِكْرِ سَعَةِ العَيْشِ لِأَنَّ ابْتِهَاجَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُهَاجِرُ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهِ بِدَوْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ الْأَعْدَاءِ، أَشَدُّ مِنَ ابْتِهَاجِهِ بِتِلْكَ الدَّوْلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَارَتْ سَبَبًا لِسَعَةِ العَيْشِ عَلَيْهِ.
وقَالَ سيّد قطب رحمه اللَّهُ: إنّ المنهج الرباني القُرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المُتنوّعة، وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة، والتي قد تتكرّر بذاتها، أو بما يشابهها من المَخاوف في كلّ حين.
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وبلاغة معجزة فلا يكتم عنها شيئاً من المَخاوف، ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار، بما في ذلك خطر المَوت، ولكنّه يسكب فيها الطمأنينة والرضا بضمانة الله سبحانه وتعالى..
فهو أولاً يحدّد الهجرة بأنّها «في سبيل الله».. وهذه هي الهجرة المُعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو للنجاة من المَتاعب، أو للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة.. ومن يهاجر هذه الهجرة، في سبيل الله، يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة الطيّبة: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً»..
وإنّما هو ضعف النفس وحرصها وشحّها يخيل إليها أنّ وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيّدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذلّ والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين، ثمّ تتعرّض لذلك المَصير البائس.. مصير الذين تتوفّاهم المَلائكة ظالمي أنفسهم. والله يقرّر الحقيقة المَوعودة لمن يهاجر في سبيل الله. . إنّه سيجد في أرض الله منطلقاً، وسيجد فيها سعة.. وسيجد الله في كلّ مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه، وينجيه ويعلي شأنه.. بتصرّف
والسؤال الذي يتكرَّر عَلَيْنا هذهِ الأيَّام: ما حكم الهجرة إلى دول الغرب، التي تتحقّق فيها فرص للعيش الكريم في ظاهر الأمر أكثر من أغلب الدوَل العَربيّة والإسلاميّة؟ وهوَ سؤال عَامّ في ظاهره، ولكنّ الإجابةَ لا بدّ فيها من مراعاة خصوصيّة كلّ حَالة وظروفها وملابساتها.. ولا يمنع ذلك من تقديم رؤية عامَّة، يغفل عنها كثير ممّن يفكّر في الهجرة: ولا بدّ أن نفرّق بين نوعين من الهجرة: الهجرة إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم. أو الهجرة إلى دنيَا يصيبها، ومَغانم يتطلَّع إليها..
والنوع الأَوّل ولا شكَّ إذا تحقّقت في الإنسان شروطه وَمؤهّلاته محبوب لله وَرسوله صلّى الله عليه وسلم مرغوب، وهو نوع منَ الجهادِ، وصَاحبه مَوعود بالفتحِ والتوفيق، وأثر أصحابه في تلك البلاد ظاهر..
والنوع الثاني وهو النوع الأعمّ الأغلب فِي هجرة الناس، فهو يحتوي على ثلاث مفاسد كلّ واحدة منها تكفي للحكم بالمَنع والتحذير من مغبّات هذا الأمر:
1 * مَفسدَةُ ضياع الدين على المُستوى الشخصيّ والأسريّ، وهذا أَمر أصبحَ ظاهِراً ملموساً لا يكابر بِه عاقل.. ولَا يَنجو منه إلاّ من اعتصم بِركن مكين، مِنْ مركز إسلاميّ، وبيئة تصون الناشئة من تيَّار المُجتمع الجارفِ، وهو باب للنجاة ضعيف.
2 * ومَفسدَةُ إضعاف المُسلمين على المُستوى الاجتماعيّ، وتأخير نهضتهم، وتعطيل تنميتهم، باستنزاف طاقاتهم البشريّة، وَقواهم العاملة المُنتجة.. فأيّ نَهضة للأمّة ترجى إذا كانت طاقاتها البشريّة تستنزف بهذه الصورة؟!
3 * ومَفسدَةُ تقوية نظام الغَرب، وإمداده بأسباب القوّة والحياة، بتحويلِ قوّةِ أبنائنا المُنتجةِ المُبدعةِ إلى الغرب، الذي يحسن استغلالَها واستثمارها إلَى أبعد حدّ، وتأخير سقوط الغرب، الذي كان وشيكاً منذ قرن أو أكثر، إذ يمدّ هؤلاء المُهاجرون تلك المُجتمعات بالثروةِ البشريّةِ، التِي هي أَهمّ من الثروةِ المَادّيّة، وهم أحوَج ما يكونونَ إليها.
وَواقع النظامِ الغَربيّ اليومَ المُتَسارع نحوَ الإفساد في الأرض، بتأييد الإباحيّة الجنسيّة، وفَرض ذَلِكَ عَلَى من يَعيش بين ظهرانيهم، ومحاولة تعميمِه على العالَم كلّه لأوضح دليل على أَنَّ فتوى الإباحة العامّة للهجرة إلى الغَرب ليسَت بالأمر الهيّن أبداً..
ومن الدروس والحقائق الكبرى التي نتعلّمها من الهجرة:
ـ أنّ سنّة الصراع بين الحقّ والباطل، وتمحيص الصفوف سنّة ماضيَة في الخلق، لا تتوقّف حتّى يرث اللَّهُ الأرضَ ومن عليها.. {وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
ـ وأنّه لا شيء يتقدّم في حياة المُسلم وعلاقاته على الدين والعقيدة، ويضحّى بكلّ شيء من الوَطن وَالأهل وَالمَال في سبيلها..
ـ وأنّ الهجرة في سبيل اللَّه ليست ضعفاً، ولا هزيمة، بل هي ارتياد آفاق جديدة لنشر الدعوة وتبليغ الرسالة. . وعلى مدار التاريخ الإنسانيّ ما كانت الهجرة في سبيل الله إلاّ عزّاً وفتحاً للمُؤمنين الصادقين.. {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف:21].
والحمدُ لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!