سبعة دروس وعبر من هجرة خير البشر
مع حلول شهر الله المحرم، يستذكر أهل التوحيد من المسلمين ذلك الحدث التاريخي العظيم منذ1445هجرية، ذكرى الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة.
ولم تكن تلك الهجرة بالأمر العادي السياحي أو الظرفي؛ بل إنه لعظيم مكانتها وما أحاط بها من أثر وما تركته من عبر، جعل الخليفه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل التأريخ والتقويم الإسلامي يبدأ منها.
ولقد وجدت وبكل تواضع أن تكون إحاطتي بدروس وعبر الهجرة النبوية يمكن حصرها في أمور سبعة أساسية تجمع خلاصة وعصارة الهجرة ومعانيها:
1- التضحية بترك الوطن ومهد الولادة وترك المتاع والأهل والولد: لقد ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام أرض مكة موطنه الأصلي ومهد ولادته المباركة، وكان ذلك الترك رغمًا عنه لا بطيب خاطر منه ودليل ذلك قوله عليه الصلاه والسلام: " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى قلبي ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"رواه الترمذي.
وقد كان لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، النصيب الأوفر في المشاركة بالتضحية بقصد نيل شرف الهجرة نصرة للدين وأهله، ومنهم الصحابي الجليل صهيب الرومي رضي الله عنه، فإنه لما اراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيْتنا صعلوكًا حقيرًا فكثُر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي، فقالوا نعم ، قال فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه، وسلم فقال: "ربح صهيب".
2- عدم اليأس والقنوط والصبر، قبل أن تصبح الهجرة ضرورة: لقد مكث رسول الله عليه الصلاة والسلام، في مكة ردحًا من الزمن داعيًا الناس إلى دين الحق فما آمن معه إلا قليل واجتمع مع أعراض القوم عن الحق، لاضطهاد صاحب الرسالة، ومن معه، ومع ذلك كله كان الصبر هو سلاح الثلة المومنة، وعمل رسول الله عليه الصلاة والسلام، على التنويع في اختيار من يبلغهم أمر الدين فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكان سفر مصعب بن عمير رضي الله عنه، إلى المدينة بمثابة التمهيد لتكوين الأرض الخصة لاستمرار الدعوة بأرض جديدة وآفاق عديدة ووضع مداميك بناء الدولة الإسلامية العتيدة فيما بعد.
3- حسن الصحبة واختيار خير الرفيق في الطريق: لقد كانت الهجرة سفرًا طويلًا يحتاج صاحبه إلى زاد يتقدم على زاد الطعام والراحلة، إنه زاد الصاحب. وكيف لا يكن اختيار رسول الأمة صلّى الله عليه وسلم، أحسن الأصحاب في هجرته، وهو قد علّم أمّته هذا الاختيار فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي". ولقد كان هذا الصاحب هو من سمّاه رسول الله عليه الصلاة والسلام من وحي السماء بالصدّيق؛ فهل يتقدم على من نال درجة الصدّيقية أحد بعده في الصحبة للنبي عليه الصلاة والسلام، إنها علامات وإشارات للخلافة والاستخلاف يفقهها القوم العالمون، وقد كانت فرحة أبي بكر رضي الله عنه، بتلك الصحبة المباركة في الهجرة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، في خير وصف لها من ابنة الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاه افقالت: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يوم ذاك". وعندما خرجا معًا لم تكن تلك الصحبة والرفقة للسمر، وتقطيع الوقت، بل إنها اشتملت على التضحية والإيثار في أبلغ معناهما.
ذلك أن الخليفة الصاحب أبا بكر كان يتقدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، في ترصد الأمكنة قبل وصول رسول الله عليه الصلاة والسلام، إليها حتى لا يصيبه أذى. ولما سأله الرسول الكريم عن سر ذلك فقال الصديق: "والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك". فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: "مكانك يا رسول الله حتى أستبرىء لك الغار"، ويقصد بذلك عدم وجود الأذى أو الهوام المؤذية.
وقد بلغ الأمر أعلى حدّه من التضحية والوفاء عند أبي بكر عندما غطّى إحدى الثقوب بالغار بأحد قدميه، بعد أن لم يجد ما يسدّه به، وقدّر الله تعالى أن يكون في الثقب عقربًا لدغ الصديق في قدمه، وأنه قد احتمل ومنع عن نفسه الشكوى حتى انهمرت دموعه من الألم رغمًا عنه، ولما انتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام للأمر تفل على قدم أبي بكر فشفيَ بإذن الله ودعا الله أن يكون رفيقه في الجنة.
4- حسن التخطيط وتوظيف الطاقات في التمويه وصرف الأعداء عن أي نيل من النبي وصاحبه: إن الهجرة المباركة حملت في ثناياها كل ما يمكن استخدامه من التخطيط والدهاء وحسن الأخذ بالأسباب المتوفرة، وذلك حتى قبل الهجرة. ذلك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ترك في فراشه ابن عمه سيدنا علي كرم الله وجهه، ليكون أول من فدا رسول الله بنفسه، وليفسد على صناديد الشرك المنتظرين خططهم، ويخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام من أمام أعينهم حاثًّا على وجوههم التراب ويقرأ قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأعشيناهم فهم ل ايبصرون} يس. وبذلك يكون هنا قد اجتمعت المعجزة والأخذ بأسباب خداع القوم وتفويت الفرصة عليهم.
وكان لنساء المؤمنات دور مبارك في خدمة الهجرة وأهلها، ونترك الكلام هنا للصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها متحدثة عن نفسها وأختها أسماء: " فجهزناها أحث الجهاز :أي أسرعه والجهاز ما يحتاج (بالضم) إليه في السفر وصنعنا لهما سفرة (الزاد الذي يصنع للمسافرفي جراب أي وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه) فقطعت والكلام لعائشة عن أسماء (بنت أبي بكر رضي الله عنهما) قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميَت ذات النطاقيْن.
ومن كمال التخطيط أن الراعي عامر بن فهيرة كان يسلك بقطيعه طريق الغار ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه ثم يسقي النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه من لبن غنمه.
5- حسن اليقين بالله والتوكل عليه في أقصى درجات الخطرمع كامل الحيطه والحذر: إن الذي ذكرناه هنا قد وجد حقيقة يقينه عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك ما جاء في وحي السماء والرسول الكريم، وصاحبه بين الشعب والجبال في عزله عن العالم كله وأرض الوطن في مكة عمن تركها، فقال الله في ذلك المشهد والموقف لرسوله مسليًّا قلبه ومريحًا فؤاده: {إنّ الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد} القصص. والمعنى إن كنت على يقين بوحي الله بالقرآن إليك، فلا يقِل يقينك بأن الله سيردّك يومًا إلى مكة. هذا من جانب ومن جانب آخر.
فإن الخطر قد ادلهمّ ظلامه بوصول المشركين ليس على بعد أميال أو أمتار من حيث هو رسول الله وصاحبه؛ بل أكثر من ذلك بكثير لقد وصف أبا بكر رضي الله عنه الموقف خير وصف فقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فيرد عليه رسول رب العالمين بيقين ما بعده يقين: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إنّ الله معنا".
فلما بلغ الأمر هذا الحد من الثقة وحسن الظن به أنزل الله سكينته على الرسول وصاحبه وأيّده بجنود من عنده، ولما قال القرآن في آيه من آياته: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}، فإن الحمامة التي باضت على باب الغار، والعنكبوت التي نسجت عليه، ليسا بمعزل عن معنى مقاصد الآية ومراميها.
6- الهجرة ضرورة في سبيل حفظ الدين والتعرف على بلاد الله، خدمة لدين الله أولًا وحفظًا للنفوس من الهلاك: إنّ المسلم على يقين أن الأرض كلها لله، وأنه لا حدود زمني ولا مكاني لوجود المسلم، ولا لدين الإسلام الذي وعد الله بإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون، وهذا اليقين يستدعي أن لا يركن المسلمين، وهم في حالة الضعف والعجز من أن يهاجروا بدينهم وما يملكون؛ فإنهم بعدم استجابتهم لما أعطاهم الله من فسحة في ذلك الأمر، وتسمّرهم في موضع أقدامهم بلا تغيير ولا تبديل، يستحقون أن يكونوا مع من قال الله بأمثالهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} النساء.
7- الهجرة باقية بالجهاد والنية: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد وضع حدًّا فاصلًا بين هجرتين، الأولى هي الهجرة الكبرى التي كان الانتقال فيها جامعًا بين الخروج الحقيقي، وترك الأهل والمال والولد، والتي انتهت بعد الفتح. وأصبحت الهجرة بعدها وإن حملت اسمها ولكن هي وكما وصفها رسول الله عليه الصلاه والسلام: "لا هجره بعد الفتح ولكن جهاد ونية". وما يعنيه ذلك يفسره أكثر من حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، وحديث مهاجر أم قيس: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله..".
فلا بدّ إذًا من عقد النية وسلامة الطوية، واختيار الصحبة السوية حتى ينال كل مسلم شرف الهجرة العلية، بمعانيها ومقاصدها الجلية.
جعلنا الله وإياكم من المهاجرين ما أمر الله بهجره واقتفاء أثر سنة خير خلقه، ونهج ما نهجه صحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن