الأريج العابق بذكرى مولد النّبيّ الصّادق
لا يجد المسلمون في أغلبيتهم الساحقة، حرجًا في إحياء ذكرى مولد خير الأنام، وحبيب الرحمن سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا مما يعزز في النفوس والقلوب والعقول معاني الذكرى العابقة بأريج يفوح شذاه ويعطر معناه من أراد أن يقتدي يسيرة رسول الإسلام قولًا وعملًا اِنطلاقا من قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية.
والغاية من هذه الأسوة هل هي مجرد رفع الأعلام ونصب السرادقات وتوزيع الحلوى وتلاوة السيرة وبعدها لا عودة لمثل ذلك إلا في العام القادم؟ الجواب على ذلك: إنّ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذاتها أي بشخص صاحبها، وبسيرته القولية والعملية، ما هو أكبر بكثير من الاحتفال الذي هو حافز لجلب الناس إلى ما يذكرهم بحياة رسولهم انطلاقًا من المعنى العام للآية {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ}، وهل يوم مولد رسول الأمة عليه الصلاة والسلام، من الميلاد إلى الالتحاق بالرفيق الأعلى هي حدث عادي؟
لا، بل يجب اعتبارها أكثر من ولادة طبيعية، لها مدلولاتها وأهميتها، إلا أنّه لا ينبغي التذكير بها أو الوقوف عليها كل عام لأن تلك بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه من بعده! ولسنا هنا بصدد الحديث والرد على منكري المولد وما يرافقه من أفراح ومباهج وحناجر تصدح بمديح رسول الأنام إنما مرادنا من مقالنا هنا، هو تعطير القلوب والعقول بأريج ذكرى المولد النبوي الشريف، بالوقوف على أربعة أمور تعد أنموذجًا حيًّا للأسوة، والقدوة التي يدل عليها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صفات ينبغي الاقتداء بها والسير حذوها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
وأول هذه الصفات الخلق الكريم، ولو قال لنا من يرى في تقديم الخلق على الدين استهانة بهذا الأخير؛ لأنهم يرَون أنّ الأخلاق الحميدة والرفيعة هي فرع لدين صاحبها، وهي تبع له وليست أصلًا متقدمة عليه، ونقول هنا أنّ الله سبحانه، عندما اختار لعبده ورسوله وصفًا يليق به، وينزله منزلة لا يداينه فيها أحد، قال بحقه :{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وهذا التقديم للأخلاق هنا يدل على أنّ ذو الخلق العظيم مع رسالته للناس ودعوته لدين الله الحق، إنّما هو يجمع الخيرين معًا خيرَي الدين والدنيا.
ألم يقل رسولنا عليه الصلاة والسلام عن نفسه بعد أن أعطى الخيرية لمن يستحقها "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله"، وقال أيضًا "خير الناس أنفعهم للناس"، وقد تجلت هذه الخيرية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينًا في القول، وعفوًا مع المقدرة، والطيب من القول والعمل فيه، ومن يرد معرفة الشواهد والمؤيدات في ذلك فليستحضر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه يحيا معه ليعاين ما تعنيه صفة الخلق الكريم في حياته ودعوته.
وقد بينت آية كريمة واحدة هذا الترابط المتين بين الأخلاق، وبين الوصول إلى الناس في دعوتهم إلى الله، والدين الحق في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية، إذًا إن الفظاظة وغلاظة القلب هما من أهم أسباب نفور الناس ممن يدعونهم ولو كان نبيًّا مرسلًا.
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رسالته ودعوته من الأخلاق المتأصلة فيه، صفات الحرص والرأفة والرحمة مجتمعين في ذاته الشريفة فقال تعالى بحقه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقد تجلت معاني هذه الصفات في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حياته كلها مع المؤمنين ليتحقق المفهوم العام لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، في صاحب الرسالة مع أصحابه.
الأمر الثاني تحقق الالتزام بين القول والعمل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنّ ما يأمر به الرسول ومن يدعو بدعوته وينصب نفسه معلمًا للناس، يجب أن يكون فيه التزام بين القول والعمل، وقد تجسد في الرسول الأمين هذا المثل العالي في الأسوة الحسنة ؛ فكان يزهد فيما يأمر به الناس من زهد ولا يتقدم عليهم في المأكل والمشرب والملبس، وكان في الحرب بشهادة أصحابه في الصف الأول من القتال والاستبسال، ومما رواه سيدنا علي كرم الله وجهه: (كانت إذا حميت الحرب واشتد بنا الوطيس احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقد أنكر الله تعالى على المؤمنين قبل أن ينكر على من دونهم أن يقولوا ما لا يفعلون، وقد عدَّ ذلك مقتًا كبيرًا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}، ونظير ذلك من الآيات: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، الآية.
الأولى هي خطاب لعموم المؤمنين أن لا يكون قولهم يخالف أفعالهم، والآية الثانية وإن نزلت في بني إسرائيل إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأهل التوحيد من الدعاة أحق بالاعتبار بها والعمل بمقتضاها ويجد الناس في أيامنا الراهنة الكثير من الاختلاف بين ما يدعون إليه، وبين ما هو واقع معاش في حياتهم، فهم يدعون الناس إلى الزهد بينما السواد الأعظم منهم يسكن الأماكن الفاخرة الباذخة ويركب السيارات الحديثة، وليس معنى هذا أننا ندعوهم إلى أن يسكنوا الكهوف ويركبون الحناطير حتى يظهر صدق قولهم في الزهد، إنما المراد ألا يشعر الناس تناقضًا عجيبًا في الفرق بين القول والعمل عند أصحابه.
الأمر الثالث تعظيم مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق أثر ذلك في حياتنا، وفي مواجهة أعداء الإسلام في الداخل والخارج فالأثر المطلوب من معرفة مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، في نفس كل مؤمن ومؤمنة ينبغي أن يتحقق معناه من قول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
فالرسول أعظم منَّة وعطيّة بعثها الله للناس، ولا يدرك قدرها إلا أهل الإيمان الصادق، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا رحمة مهداة"، وهل يعرف أحد قيمة الرحمة إلا عندما يفتقدها، ويكفي تخصيص الأمة المحمدية من بين كل الأمم وتخصيص نبيِّها من بين كل الأنبياء بفضيلة الصلاة والسلام عليه، من الله ومن الملائكة في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، فإذًا هي فعل عبادة باللسان يقولها المؤمن بعد أن تقدم شرف ذِكر من قالها في الملأ الأعلى، وتجسيد لمكانة الرسول، وعظيم منزلته عند الله وفي قلب كل من يصلي عليه.
وأمّا استشعار تلك المكانة في مواجهة أعداء الإسلام، وما أكثرهم في الداخل قبل الخارج فإنما يتحقق ذلك في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام، في أمور الدنيا والدين معًا وإظهار صفة الصفوة الذين اتبعوه بإحسان، وشهد لهم غير المسلمين قبل الفتح، قصدت به أبا سفيان، الذي قال ما رأيت أحدًا يحب محمد كمثل ما يحبه أصحابه، وأن يستهين المؤمنين بقدر نبيهم ومكانته في مواجهة أعداء الإسلام وأعداء رسول الإسلام بالسكوت والخفوت والانطواء والخمَود كل ذلك دفع من يكيدون للإسلام أن يوجهوا نيران حقدهم الأعمى لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بألسنتهم الماكرة وأيديهم الفاجرة فأما ألسنتهم فكان لهم فيها النصيب الأوفر من التشهير والرسوم الساخرة.
وأما نيلهم من رسول الإسلام بالسنان فهو لم يتوقف لا في حياة الرسول ولا بعد لحوقه بالرفيق الأعلى وقد امتدت الأيدي القذرة الملعونة إلى كتاب الله العزيز بالحرق جهارًا نهارًا وامتد مكر القوم في الشرق والغرب إلى غزو بلاد المسلمين في العراق وأفغانستان وقبلهما في فلسطين واجتمعت كلمتهم وهم أهل فرقة وشقاق على عداوة الإسلام وأهله ونبيه ودستوره وكل ما فيه نفحة توحيد وإيمان
الأمر الرابع الشعور بالزهو والفخر في نفوس المؤمنين والمؤمنات، وهم يستحضرون سيرة رسولهم عليه الصلاة والسلام، بما فيها من قدر لصاحبها ولمن تلاها وعمل بها، ولسان حالهم، ذلك النبي الكريم َوالرسول الأمين قدوتي وأسوتي ومثلي الأعلى، الذي جمع ما لم يجمعه غيره من الصفات، وبلغ بها أعلى الدرجات. إنه النبي الحي قبل ولادته، على لسان الأنبياء الذين سبقوه، وهو حي بعد مماته بسنته المطهرة، مستشهدًا بالحديث الشريف "تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا كتاب الله وسنّتي". وهذه حياة ثانية لم يحيَها أحد قبله ولا بعده.
وأخيرًا خير تعبير وتقدير، لمعنى الفخر الذي لا يستحقه إلا من كان عبدًا لله يناديه بعبوديته عليه، وإن كان الاختيار لمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام نبيًّا، فحال من كان أمره كذلك أنه يبلغ بأخمص أصبعه عنان السماء ويطأ به ثريا السماء.
ومما زادني شرفًا وفخرًا وكدتُ بأخمصي أَطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك: (يا عبادي) وأن صيَّرت أحمد لي نبيَّا
جعلنا الله وإياكم من الذين يفتخرون بأن لهم مثل هذا الدين ومثل هذا النبي الصادق الأمين، والحمدلله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة