من فُيوضِ ربيع الأنوار
نسائمُ زكيّة، وذكرياتٌ شجيّة، تَعبَقُ في أنفاس العالَم الإنساني في شهر ربيع الأنوار من كلِّ عام، فيستحضرُ فيه الهديّة السَنِيّة التي وهبَها الله سبحانه وتعالى للبشرية قبل قرابةِ أربعة عشرَ قرناً ونصف، فاخضرّت دوحتُه بعد اصفرار، وأزهرتْ أفنانه بعد يبَاس.
إنّه رسول ﷺ، المِنّة العظيمة التي لانتْ به القلوب القاسية، فسكنَ حبُّه في عرشِها، واهتدت به البشرية بعد ضلال فكان سراجَ طريقها.
ما أسعدَ الكونَ بمولد رسول الله ﷺ وهو يحمل له الرحمة، التي بشّر بها ربُّ العزّة جلَّ جلاله في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وما أشقَى المتنكرّين لهذه الرحمة! الذين أعماهم الكِبرُ، فتنكّبوا طريقها، ولو أنّ دساتيرَهم ومؤسساتهم المدنية ومنظماتهم الحقوقية نهلتْ من مَعين هذه الرحمة لنَعِمُوا بالعيش الكريم أيّما نَعيم.
إنّه محمد ﷺ، نستلهمُ من فُيوضِه الزكية بعضَ معاني الرحمة في مشاهد ثلاثة:
- العفو لا الانتقام:
كان من أشدّ الأيام قساوةً على رسول الله ﷺ ذلك اليوم الذي قدِم فيه الطائفَ يحدوه الأمل بأن يجدَ عندهم ملاذاً وسنداً ليبلّغ رسالة ربّه، فعرضَ على كبرائهم أن يقبلوا دعوته، لكنهم أبَوا، فعرضَ عليهم أن يكتموا على قريش خبرَ مجيئه إليهم، فأبَوا، وزادوا على ذلك أنهم أغرَوا صبيانهم وسفهاءهم بالنَّيل من رسول الله ﷺ، فلحقوا به يشتمونه ويرمونه بالحجارة، حتى أُدميت قدماه، فلم يُفِق مما هو فيه حتى كان في جبلٍ بين مكة والطائف يسمى (قرن الثعالب)، وإذ بمَلَك يُرسل إليه، فيقول: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمع قولَ قومكَ لك _ الذين عذّبوه من كفار قريش والذين طردوه من ثقيف_ وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثَني ربُّك إليك لتأمرَني أمرَك، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطبقَ عليهِم الأخشبَينِ (الجبلين على جانبي مكة) فعلتُ، فقال له رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: 'بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا' رواه مسلم.
فجديرٌ بالإنسانية أن تتعلّم من رسول الله ﷺ أنّ مِن أرفع أنواع الرحمة أن تملكَ القدرة على الانتقام ممّن ظلمك، ثم تعفو عنه. وأن تنتقل من ضيق الأنا إلى أُفق الإيثار، وأن تنتصر لله، لا لنفسك.
- لا فرق بين غنيّ وفقير إلا بالتقوى:
ليس من العدالة في شيء أن يهوّنَ من شأنِ أناس ٍلأنهم فقراء، وأن يُعظَّم من شأن آخرين لأنهم أثرياء! ولذا كان رسول الله ﷺ يستقبحُ هذا المعيار الجائر، ويُرسي في صحابته معايير العدالة واقعاً، فذات مرة حَزن لوفاة امرأة ليست ذات شأن بين الناس هي أمّ محجن، فعاتبَ أصحابَه لأنهم لم يخبروه بوفاتها. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ ففقدها رسولُ اللهِ ﷺ، فسأل عنها، فقالوا: ماتت! قال: 'أفلا كنتُم آذنتموني؟ ' قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها. فقال: ' دُلُّوني على قبرِها'، فدَلُّوه فصلَّى عليها. ثم قال: 'إنَّ هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم' رواه مسلم.
فكان جديرٌ بالإنسانية أن تتعلّم من هذا الموقف كيف تبدد الفوارق الطبقية التي تستند إلى المال والجاه، وكيف تعلّم أهلَها أنّ الناس متساوون في كرامتهم وحقوقهم، وأن أكرمهم عند الله_ ليس أغناهم ولا أملَكَهم ولا أوجههم، بل أتقاهم.
• امرأة تُجيرُ مشركيَن:
جاء في كُتب السّير أنه في أثناء فتح مكّة فرّ رجلان من المشركين إلى بيت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، وسألاها أن تُجيرَهما ففعلت، فلحق بهما أخوها عليّ رضي الله عنه ليقتلهما، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستشيره، فقال: 'مرحَباً بِأُمِّ هانئ، قد أجرنَا من أَجَرتِ يَا أُمَّ هانئ ' رواه البخاري.
وفي كلامِ رسول الله ﷺ رسالتان، ينبغي أن تصيخَ لهما آذان الدهر، الأولى تكريمٌ للمرأة، من خلال ترحيبه بها وموافقته لها في شأنٍ عام، والثانية احترامُ المستجير وعدم المساس به، أيّاً كان انتماؤه، ولعلّ في استجارة غير المسلمين فرصةً لهدايتهم، من خلال إكبارهم موقفَ المُجير ودفاعِه عنهم، ومن خلال سلوكه في بيته، والاستماع إلى القرآن الكريم.
ختاماً، إنَّ التذكير بمولد رسول الله ﷺ، الرحمة المهداة للبشرية، ليس لمخافة نسيانِ ذكره، فإنّ ذكره مستدامٌ في السَّنة وفي الشهر وفي اليوم، فاسمُه الشريف مِلءُ الفضاء، كلَّ يوم خمس مرات مع كل أذان، وتحيّته في كل صلاة قولنا :(السلام عليك أيها النبي..)، بل من أجل أن تتقدَ جذوةُ حبّه في القلوب فلا تنطفئ أبداً، ثم ليتجلّى هذا الحب بالاتباع الصادق لهديه وبحمل أمانة دعوته الربّانية.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!