ذكرى الإسراء والمعراج: آيات وعبر
في كلّ عام من أعوام السنة الهجرية، وتحديدًا في ظل هذا الشهور المباركة، شهر يظلل رحاب بلاد المسلمين وأقطارها في كل أصقاع الأرض، ذكرى عظيمة لا مثيل لها في تاريخ كتاب النبوة إلا لنبي واحد هو رسول الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. وهو ما يعني بصريح البيان أن معجزة الإسراء والمعراج، وإن كانت قد سبقتها أحداث جسام ساهمت في تعجيلها، وكانت بمثابة مواساة، لقلب الحبيب من حبيبه وخليله.
وأنه لن يتركه في الأرض وسيرفع جسده إلى السماء كما رفع اسمه وذكره وقرن اسمه مع اسمه، أقول مع كل ما ذكرنا من أسباب لحصول رحلة الإسراء والمعراج فإن من وراء ذلك أيضًا ما ينبغي الوقوف عليه بحذاقة وتبصر سيما وأن ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إسرائه ومعراجه يحتاج إلى تعليل وتفسير وعدم الاكتفاء بالسرد وألفاظ التعبير.
وهنا وقبل الخوض في بداية رحلة الإسراء والمعراج، نقول إنه قد كان لهذه المعجزة الربانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أسباب ومقدمات ساهمت في حصولها، وكانت بمثابة تشريف وتكريم وترويح قلب من رب السماء لحبيبه ومصطفاه.
لقد سبق هذه الرحلة المباركة أن مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الضيق والشدة والحزن والألم والإيذاء الجسدي، والنفسي، ما لا يمكن عدّه قليلًا، ويكفي أنه قد اجتمع في عام واحد أن فقد الرسول الكريم، سندَين عظيمَين في مسيرة الدعوة إلى الله تعالى.
الأول: كان عمه أبو طالب، والذي كان رغم عدم إسلامه، سندًا وعضدًا قويًّا لابن أخيه في وجه عتاة قريش الكفرة وصناديدها، والثاني: كانت زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، والتي كانت نعم الزوجة الصالحة الصابرة التي يكتب اسمها في سجل الخالدات، وإحدى سيدات نساء العالمين، وقد سمّى رسول الله عام فقده لعمه وزوجه بعام الحزن.
وقد اشتد أذى القوم على رسولهم ووصل الحد بهم في الطائف أن أغروا به سفهاءهم ورعاع القوم فيه ليقذفوه بالحجارة، ويدمون قدميْه الشريفتَين، فكان أن لجأ رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلى ظل شجرة، يستريح بها وتوجه إلى ربه بدعاء جمع التضرع والنجوى بلا تذمر، ولا شكوى، وإنما عتاب من يحب ومن يهوى لرب السموات والأرض، ورب العرش العظيم من يقُصد في الضرّ وفي البلوى، فلبّى الله عزّ وجل لحبيبه دعواه، وأرسل له ملك الجبال ليغلق على الكفار الأخشبَين في مكة، ويجعلهم عبرة لمن يخشى فرد الرسول الكريم، بلا، وأنه يرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، وقال له الملك صدق من سمّاك يا محمد بالرؤوف الرحيم.
وبعد هذا كله كان لا بد من تسلية قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمأنة فؤاده، وتأييده بمعجزة باهرة وآيات ظاهرة، فكانت معجزة الإسراء والمعراج. فقد أرسل الله أمين الوحي جبريل عليه السلام ليأخذ حببيه محمد عليه الصلاة والسلام على ظهر دابة سماوية نقلته من مكة ليلا إلى المسجد الأقصى في فلسطين، بطرف عين حيث إن الآية الأولى التي يمكن أخذها هنا من الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أقول تلك الآيات اختصار الزمان والمكان، والله تعالى خالقهما وهما طوع أمره.
والآية الثانية وحدة الدين بجمع مكانَين اجتمعت فيهما مسيرة الأنبياء جميعًا، إقرؤوا إن شئتم قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }، ولن يخرج أحد ممن ذكرتهم الآية عن أن يكون في مكة وما جاورها أو في فلسطين وما قاربها.
وكانت الآية الثالثة تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء جميعًا بصلاته بهم إمامًا في المسجد الأقصى، وذلك مما يدل على قدوته على جميع خلقه من إنس وجن؛ بل وحتى على العالمين لقوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}، وتقدم رسول الله بالإمامة يعني أن شريعته ورسالته متقدمة على كل من سبقه من الأنبياء والمرسلين.
وأما الآية الرابعة فكانت في اختيار رسول الله كوب اللبن على كوب الخمر وكوب الماء، والذي قدّمها له جبريل، فكان اختياره للبن اختيار الفطرة، وكما أن اللبن في ضرع نشأته يحمل غذاء ذاته، فكذلك فطرة التوحيد تحمل لمن يحملها سبيل نجاته.
وبدأت بعد رحلة الإسراء رحلة المعراج، وقد جمع الله سبحانه كل ما في المعراج بثماني عشرة آية من سورة النجم، بدأت بقسم الله عز وجل بالنجم، وهو مخلوق عظيم ولكنه يهوي، ولكن محمد وهو نجم الأنبياء والمرسلين لم يهو ولكنه صعد إلى السموات السبع، وبلغ سدرة المنتهى فهل يكون قد غوى من بلغ عنان السماء وفتحت له الأبواب، وشاهد من الأنبياء والأصفياء ثم كشف الله له فشاهد من أحوال أهل الجنه من الفقراء السعداء، وشاهد من أحوال أهل النار التعساء الأشقياء ووصل إلى حيث لا يصل إنس في الأرض ولا ملك في السماء {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}، وأي آية أعظم من أن يكلمه الله بلا حجاب ويفرض عليه وعلى أمته الصلاة، أعظم العبادات وأفضل القربات، ثم عاد رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلى الأرض ولما يطلع فجر اليوم التالي ليجد نفسه أمام مكذبين لحديث إسرائه ومعراجه، وبين من كان أصدق من صدقه ومن كان خير أصحابه وخليفته الصديق من بعده أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
إن رحلة الإسراء والمعراج، ليست رحلة استكشاف واستجمام وليست للتسالي ونسيان الأحزان، وإن كان فيها أعظم ما ذكرنا من السلوى وصرف النفس عن الآلام والأشجان، لقلب حبيب رب العالمين عليه الصلاة والسلام، ولكن من مقاصد الرحلة العظيمة أن الله قادر على جمع الزمان والمكان، في ساعة أو ساعتين، وعلى أن يطوي السماء بالأرض لعبده كما ستطوى السماء كطيّ السجل للكتب بلا تأخير ولا طلب استئذان.
وإن ما يجمع المسجد الأقصى والبلد الحرام لا يحول بينهما بعد في الزمان والمكان، ولا بد من أن تجتمع الأمة على ما جمع الله لنبيه في رحلة الإسراء والمعراج، من عظيم الآيات والعبر.
وإن من العبر الواجب الالتفات إليها في هذه الذكرى المجيدة الكثير مما لا يمكن حصرها، ولكن يمكن جمعها في أربعة أمور. الأول: أنه إذا تخلى عنك يا محمد أهل الأرض وضيقوا رحاب الأرض عليك، فإني قد فتحت لك عنان أبواب السماء، لتصل إلى حيث لا يصل نبي مرسل ولا ملك مقرب.
الثاني: إن هذه الرحلة الجامعة بين مسرى الأنبياء، وملتقى الأصفياء من الأولياء معهم قصدت موسى والخضر عليهما السلام، وحيث عاشت مريم البتول تحمل عيسى الرسول يكلم الناس في المهد، كما في سن الكهول، وحيث عاش زكريا وابنه يحيى السيد الحصور، وحيث عاش داوود النبي، والملك الجسور، وولده سليمان الحكيم ذو ملك لم يعط لغيره أبد الدهور، أقول كل ذلك مر في مسرى نبينا الرسول، وصلّى بهم جميعًا في المسجد الأقصى إمامًا ورسولًا.
الثالث: إن المسجد الأقصى وفي علم الله الأزلي، أن أعداء الله سوف لن يدعوه في مأمن من الغزو والسطو والحرق والهدم، والتاريخ يشهد في كل ذلك حيث كان الفاروق عمر رضي الله عنه، لمفاتيح بيت المقدس قابضًا، وبعده الناصر صلاح الدين له فاتحاً ظافرًا، وكأن التاريخ يتكلم ناطقًا من يأت بعدهما من رجس اليهود مخلصًا ومطهرًا، ولراية التوحيد في المسجد الأقصى رافعًا.
الرابع: إن العبر من مسرى ومعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجتمعة هي في بيان خصوصية هذه الأمة ووسطيتها بين الأمم ، حيث إن كل أصحاب الشرائع السابقة كان لهم طرف من الخيط بين المسرى والمعراج، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطاه الله الخيط كله وشرّفه بين الأرض والسماء العلي، وخص أمته بالصلاة في الحضرة العلوية الفضلى.
فكل ذلك شرف للرسول والرسالة والأمة. وفقنا الله وإياكم، لجوامع الخير كله في الاستفادة والاعتبار من ذكرى مسراه ومعراجه، والاعتبار بعظيم ما رآه من آياته. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!