متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
لن يرتقي واقع المسلمين إلى الأفضل حتّى تؤدّى العبادات كما أرادها اللّه تعالى
التّكليف بالعبادة هو الغاية الكبرى من خَلْق الإنسان لا يسقط عنه إلى أن يلقى ربّه، والرّسالات كلّها دعوة لعبادة اللّه.. وأوّل العبّاد الأنبياء والرّسل وهم القدوة.. وإسقاط العبادة تراجع عن هذا الهدف، واتّباع للنّظرة المادّيّة الّتي تحصر كدح الإنسان وسعيه في الدّنيا، المتاع القليل..
جعل اللّه أركانا للإسلام، هي دعائمه الّتي تشكّل محور العبادة، ويتوجّب العلم والعمل بها جوهرًا ومعنى، لتنعكس على سلوك الفرد فتفرز حركة رشيدة.
وأوّل هذه الأركان الشّهادتان {ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت}، (النّحل 36)، العبوديّة تسليم بالخضوع لحكم اللّه وسلطانه ومنهجه في كلّ حركة وقول.
ومن مقتضيات الخضوع للّه أداء الصّلاة الّتي تتمّ فيها العبادة باللّسان تكبيرًا ودعاء، وبالجسم قياما وقعودًا وركوعًا وسجودًا، وبالعقل تفكّرًا وتأمّلا فيما يُتلى من القرآن، وبالقلب خشوعًا وشعورًا بمراقبة اللّه وحبّه، فينشرح الصّدر بتغذية الرّوح.
إقامة الصّلاة أعمال ظاهرة وثيقة الاتّصال بحقيقتها الباطنة، وهي شكر للّه يثمر استقامة العمل وصحّته {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر}، (سورة العنكبوت 29). {إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين الّذين هم على صلاتهم دائمون}، (المعارج 19ـــ 23)، وهي تزرع المبادئ الاجتماعيّة القائمة على الإخاء والمحبّة.
بعد الرّكن الثّاني تأتي الزّكاة {والّذين في أموالهم حقّ معلوم للسّائل والمحروم}، ( المعارج 24 ـــ 25)، وهي عطاء مُنَمٍّ لمال المعطي وزيادة خير وبركة له، هي حقّ للفقير، يكون المجتمع بأدائها أسرة واحدة يكفل أفرادها بعضهم بعضًا.
أمّا الرّكن الرّابع فهو صوم رمضان الّذي أنزل فيه القرآن، تُفتح فيه السّماء وتصفّد فيه الشّياطين.. هو "هلال خير ورشد".. فيه ليلة خير من ألف شهر.. تكثر فيه الطّاعات، يتدرّب فيه الفرد على الصّبر ويصوم عن اللّغو وفضول الكلام، ينام فيه ليتقوّى على القيام.. هو سبيل إلى مغفرة اللّه، يُستجاب فيه الدّعاء. رمضان دورة تربويّة مكثّفة تثمر صلة متينة باللّه، تهذّب النّفوس وتعطيها قوّة وإرادة للتّغيير ومتابعة المسير بغية مرضاة اللّه سائر العام. فأين الأمّة اليوم من كلّ هذه المعاني؟..
وآخر ما فرض الحجّ ومن شروطه القدرة الماليّة والبدنيّة.. رحلة إلى اللّه يلبّي فيها المسلم دعوة ربّه، فيؤكّد بها أنّه سبحانه أحبّ إليه من أهله وبلده والنّاس أجمعين.. هو رحلة مسبوقة بتوبة نصوح وإخلاص نيّة وأداء للحقوق والأمانات، وطلب صفح من الأقارب والأصحاب، ومواساة للمحتاج والمسكين إن تيسّر ذلك.. إحرام الحاجّ تجرّد من الشّهوات وإخراج للدّنيا من القلب وتطهير للنّفس من مظاهر الكِبر والعُجب، ورمز للوحدة والعدل وتدريب على إماطة الأذى.. الطّواف تعبير عن محبّة اللّه، وفي السّعي بين الصّفا والمروة استشعار لفقر العبد إلى ربّه وحسن التّوكّل عليه كما أحسن ذلك إبراهيم عليه السّلام وأهله.. وكذا الوقوف بعرفة هو ابتهال إلى اللّه يباهي به سبحانه الملائكة ويكون فيه الشّيطان في أذلّ حال، وكذا عند رمي الجمار.. الحجّ فتح صفحة جديدة في التّعامل مع اللّه ومع النّاس، ومؤتمر يتدارس فيه المسلمون أوضاعهم بحثا عن أسباب القوّة. {وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى}، (سورة البقرة 197).
جهل من المسلمين بكنه العبادة، أدّى إلى حصر الصّوم في الامتناع عن الأكل والشّرب، والاكتفاء بدفع الضّرائب المطلوبة من الدّولة والإعراض عن أداء زكاة المال، ومنهم من نادى بالاستغناء عن بناء المساجد أو تحويلها إلى مؤسّسات أخرى يرونها أنفع للنّاس؟.. ومنهم من جعل الحجّ رحلة للفوز بلقب، ومناسبة لإسراف المال قبله وبعده في موائد الطّعام.. الأولى الامتناع عن تبذير المال في مثل هذه الموائد والاحتفالات المتعدّدة.. ومنهم من نادى بمقاطعة الحجّ والعمرة بحجّة أنّ الحاكم في الأماكن المقدّسة، يسند العدوّ بالمال ليمطر النّساء والأطفال بالصّواريخ والقنابل القاتلة... تلك الأماكن الطّاهرة جزء من بلد مسلم وإن حُكِم بظلم، وشعبه مسلم وإن ركبه الجهل بالدّين.. {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة و اتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّا}، (سورة مريم 59). الواجب استعادة روح الشّعائر المذكّرة بمراقبة اللّه، لتغرس القيم الأخلاقيّة، فيُلهَم الجميع، حكّاما ومحكومين، السّلوك الرّشيد.
ولا يتأتّى الرّشد في المواقف إلّا بمقاومة الجهل بأسس الدّين، ولن يرتقي واقع المسلمين إلى الأفضل حتّى تؤدّى العبادات كما أرادها اللّه، فهي الّتي تُنْبِتُ الفردَ الرّفيعَ الخُلُق، المحقّق للطّاعات، القويّ الّذي يقاوم الظّلم باستبعاد القائم عليه، لا بتعطيل أركان الإسلام.
الحلّ يكمن في طلب العلم بمعناه الواسع كما عرّفه الإمام الغزالي: "علم باللّه، وعلم بأمره، وعلم بخَلِقه. والعلم باللّه أصل الدّين، والعلم بأمره أصل العبادات والمعاملات والأخلاق، والعلم بخَلْقه أصل في صلاح الدّنيا".
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير