لا ريب أنّ المعلِّمَ سيِّدٌ في مملكّةِ الفِكر، وإنْ لم يُبايَعْ، رائدٌ في مسيرةِ الثّقافةِ، وإنْ تواضَع. هوُ الجُندِيّ الـمَجهولُ، بل قولوا: القائدُ الـمجهولُ في معركةِ المعرفةِ والـمفاهيم.
يذكر زَكي نجيب محمود (1993م) في كتابه "حَصادُ السّنين" قصّةً يونانيّةً قديمةً ذكرها أفلاطون (347ق.م.) عن عَبْدٍ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ أنْ يُعَلِّمَ ابنَهُ رُكوبَ الـخَيلِ، فصارَ العَبْدُ بذلك هُوَ السَّيِّدَ الَّذي يَأْمُرُ الابْنَ، فيُطيعُهُ، بما لَهُ مِنْ عِلْمٍ. فكأنَّ هذا العِلمَ حرَّرَه. ونحنُ نزعُمُ أنَّ تعلِّيمَ اللّغاتِ مِفتاحُ تحرُّرِ المعلِّمِ والـمعلَّمِ مَعًا.
ولا بُدَّ لأيِّ شخصيّةٍ قياديّةٍ مِن جملةِ سماتٍ، بعضُها ثابتٌ يتخطّى السّياقَ والـموقفَ، وبعضُها مَرِنٌ يستجيبُ للـمتغيِّراتِ. ونحنُ هنا نضعُ بُذورًا للزّارعينَ، ونأمُلُ في مَوسمِ الـحَصادِ أن نرى الأُكُلَ الخيِّرَ. وإنّي لَذاكرٌ أبرزَ السّماتِ المرجوّة في معلِّمِ اللِغةِ العربيّةِ:
أ ـ إيمانُ معلِّمِ العربيّةِ بأنَّ الـتّعليمَ رسالةٌ إنسانيّةٌ تتطلّبُ الصّبرَ والمسؤوليّةَ والـتّضحيةَ، وتغليبَ مصالحِ الأمّةِ على المصلحةِ الذّاتيّةِ. ويرافِقُ ذلكَ الانتماءُ القويُّ إلى تُـراثِ الأمّةِ العريقِ، وتوظيفُهُ في اختيارِ نُصوصِ الـتّدريسِ، ومادّةِ اختباراتِ الشّهورِ، والـتَّوسُّعُ خارجَ حدودِ لبنانَ القُطريّةِ، كي يَبقى الـتّواصلُ الشّعوريُّ والرُّوحيُّ معَ كلِّ مَن تَعنيهِ اللّغةُ العربيّةُ. ولا بدّ أيضًا أن تكونَ نصوصُ اللّغةِ العربيّةِ معبِّرةً عن الوقائِعِ الـمستجِدّةِ، مستخرَجَةً من أصداءِ الآهاتِ الـمعاصِرة، ومواكِبةً لأحلامِ الأجيالِ الصّاعِدةِ.
ب ـ الاطّلاعُ على سِيَرِ الـمعلِّمينَ الـمميَّزِينَ، بَدءًا بالأنبياءِ والفلاسفةِ والوُعَّاظِ، ووصولًا إلى قادةِ الرّأيِ في العصورِ الحديثةِ، لِيُعرَفَ مِن أينَ تُؤكَلُ الكَتِفُ. وينبغي أن تواكِبَ هذهِ الخُطوةَ دراسةُ مُتطلَّباتِ الجيلِ، وطموحاتِ الأطفالِ والنّاشئةِ، وطرائقِ تفكيرِهِم، حتّى نُحاكِيَها ونُحاوِرَها ونُجسِّدَها في وسائلِ إيصالِ الأفكارِ، وأساليبِ الخِطابِ.
ج ـ أن يكونَ معلِمُ العربيّةِ وجهًا من وجوهِ الـمجتَمَعِ، يخالِطُ النّاسَ ويغشى مُنتدياتِهِم العامّةَ، ويدخُلُ في تفاصيلِ مشاكِلِهِم، وينغرسُ في قلوبِهِم، حتّى يُدركوا أنّ هذا السّلوكَ متأتٍّ ممّا يحملُه من رسالةِ الـتّعليمِ، وممّا يُفهَمُهُ مِن طبيعةِ اللّغةِ الّتي تتفاعلُ معَ الفِكرِ والإحساسِ، وتتنقِلُ مِن مَرحلةِ الـتّنظيرِ الباردةِ إلى مَرحلةِ التّنفيذِ الحارّةِ.
د ـ إتقانُ المعلِّمِ للّغةِ العربيّةِ إلى حدٍّ كبيرٍ، مَعَ الاستزادةِ الدّائمةِ من قواعِدِها، والـتّحديثِ الدَّؤوبِ لـما تقتضيهِ مُرونَتُها، والغَيرةِ القُصوى عليها، والـتّعطُّشِ الجارفِ لنُصرَتِها، والمهارةُ الكاملةُ في استخدامِ مفرداتِها وتراكيبِها وَفقَ الضّوابِطِ الصّحيحةِ. وهذا تُــعزِّزُهُ الممارسةُ الفِعليّةُ لفنونِ الكلامِ المبدعِ (الشّعر- المقالة الذّاتيّة- القصّة القصيرة- الرّواية- المسرحيّة...)، والـتّعمّقُ في قراءةِ كتبِ الـنّقْدِ قديمِها وجديدِها، عربيِّها وغربيِّها.
هـ ـ اختيارُ المعلِّمُ كلامَهُ من الـمُفرداتِ المأنوسةِ، والـتّراكيبِ السّهلةِ، ولا بأسَ في أنْ يستخدِمَ ألفاظًا شائعةً في اللَّهجةِ الـمَحكيّةِ، وهيَ فصيحةٌ، مثل: العَيِّلُ- التَّـخْتُ- دَعَسَ- شالَ- بَصَّ- بَكَّلَ- خَرْبَشَ- كَفَتَ- نَطَّ... وهذا الأمرُ يَحمينا مـمّا أُثِرَ عنِ الإمامِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ: "النّاسُ أعداءُ ما جَهِلُوا"، [ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/86]، فإنّ الهُوَّةَ الـمعرِفيّةَ بينَ المعلِّمِ والمتعلِّمِ إذا اتَسعَتِ، ترسّخَ الجفاءُ.
و ـ اتِّساعُ الـمعرفةِ، واحتواؤُها المجالاتِ الأخرى خارجَ مادّةِ اللّغةِ العربيّةِ، لإثباتِ أنّ هذه اللُّغةَ ليستْ منعزلةً عنِ العلومِ الكونيّةِ، وليستْ طائرًا يُغرِّدُ مِن دون سِرْبٍ. وأهمّ أمرٍ التّعمُّقُ في المناهِجِ الـنّفسيّةِ والطّرائقِ الـتّربويّةِ الملائمةِ للولوجِ إلى عالَــمِ المتعلِّمِ، واستقطابِ اهتماماتِه. وفي إطارِ هذه النّظرةِ الـمعرفيّةِ ينبغي أن يُبعِدَ المعلِّمُ عن ذِهنِه انتقادَ موادَّ أخرى تنافسُ اللّغةَ العربيةَ في استقطابِ اهتمامِ المتعلّمينَ. فليكُنِ الحاضِنَ لكلِّ هذهِ الموادِّ، كما كانتِ العربيّةُ عبرَ التّاريخِ وعاءً لكلِّ العلومِ النّقليّةِ وغيرِ الـنّقليّةِ.
ز ـ اهتمامُ المعلّمُ بالمظهرِ الحسنِ في شكلِهِ، وهِندامِه، وصوتِهِ، وخَطِّهِ، وأسئلتِه المطبوعةِ، ووسائلِ الإيضاحِ الّتي يبتكِرُها، والبيئةِ الصّـفّيّةِ حيثُ يُعلِّمُ، لتكونَ لمستُهُ الفـنّـيّةُ مرآةً لِجمالِ اللُّغةِ، وأناقةِ الـتُّراثِ. ويندرِجُ في الـجمالِ جمالُ الأداءِ، فالحصّةَ الحيويّةَ- وإنْ شابَها بعضُ الفوضى- أرقى مِنَ الحصّةِ الجامِدةِ- وإنْ سيطَرَ عليها الضَّبْطُ والهُدوءُ.
ح ـ مواكبةُ الـتّطوُّرِ العِلميِّ في وسائلِ الإيضاحِ والشّرْحِ، كالطّباعةِ الإلكترونيّةِ، وإعدادِ الشّرائحِ، وتشغيلِ الألواحِ الذّكيّةِ، واستثمارِ منصّاتِ الـتّواصلِ الاجتماعيِّ في الـتّربيةِ والـتّعليمِ، والـتّعامُلِ مَعَ تطبيقاتِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ. وينبغي لبلوغِ ذلكَ تبادُلُ الخِبراتِ مَعَ الزُّملاءِ عَبْرَ المنتدياتِ واللّقاءاتِ والدّوراتِ المتخصّصةِ، لتوسيعِ وُجهةِ النَّظَرِ، وتوحيدِ الجُهودِ.
ط ـ العدلُ الأتمُّ في الـنّظرةِ إلى المتعلّمينَ إبّانَ الشّرحِ، وإبّانَ الـتّقييمِ على اختلافِ أنواعِهِ ودرَجاتِه، والاستعدادُ للتّراجُعِ عَنِ الخطإِ عندَ اكتشافِهِ. ويندرجُ ضمنَ هذا العدْلِ إنصافُ المعلِّمِ للأدباءِ الّذينَ ينتقِدُ نصوصَهم مع طلّابِه، وأن يتورّعَ عن نقدِ زميلٍ له أمام المتعلّمين. وهذا العَدْلُ ينبغي أن يكونَ جُزءًا مِن مَنظومةِ قيمٍ وأخلاقٍ وآدابٍ يَتحلّى بها مُعلِّمُ اللّغةِ العربيّةِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن نتمكَّنَ مِن إنعاشِ اللّغةِ العربيّةِ في نفوسِ المتعلّمينَ، كي يَنهَضُوا بها، ويَفتَحوا دروبَ الــنّجاحِ الحقيقيِّ، الـنّجاحِ الّذي يَستَلهِمُ وُجدانَ الأمّةِ، ويحرِصُ على غدِها.
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!