د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثالث
يحتفي القرآن الكريم بالإنسان احتفاءً بالغًا؛ حيث يتناوله باستفاضة وتفصيل تعريفًا به، من حيث خلقته وتكوينه ونشأته وتطوُّراته، ومن حيث علاقاته في الوجود سواء مع خالقه، أو مع باقي المخلوقات، ومن حيث طبيعته بإبراز نواحي ضعفه وقوَّته، وكذا من حيث رسالته ومهمَّته في الأرض وما تقتضيه من واجبات وتكاليف، وكلّ ما يتعلَّق بحياته على هذه الأرض، وكذا مآله في الحياة الآخرة. وكلّ ما يقدِّمه القرآن من هذه الإفادات عن الإنسان ومسيرته في الحياة ومصيره بعدها، تُشكِّل مادَّة معرفيَّة تؤهِّل العقل الإنساني لأن يبنيَ العقيدة والفلسفة الصحيحتين عن حقيقته وماهيَّته، وعن طريقها يمكن تحصيل الإجابات الكافية على تلك الأسئلة الأوَّليَّة التي حيَّرت الفكر البشري منذ زمن بعيد، من قبيل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين، وما المصير؟؟
إنّ نصوص الوحي في هذا السياق تضمن معرفة صحيحة وسليمة، وحصانة قويَّة للعقل البشري من الوقوع في الأساطير والخرافات والأوهام، حول هذا الكائن، ولطالما تخبَّط هذا العقل خبط عشواء في هذه القضايا، وخرج بتخمينات عديدة، ونظريّات مختلفة، وفلسفات متعدِّدة، ومذاهب كثيرة، لم تغن ولم تشف، بل ظلَّت الأسئلة عالقة. يقول سيّد قطب في ظلاله:"لقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع؛ ولكنّه وقف حسيرًا أمام ذلك السر اللطيف-الروح- لا يدري ما هو، ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان، ولا أين يكون، إلّا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل. وما جاء في التنزيل هو العلم المستيقن، لأنّه من العليم الخبير، ولو شاء الله لحرَّم البشريّة منه، وذهب بما أوحى إلى رسوله؛ ولكنّها رحمة الله وفضله" (١٥/٢٢٤٩). ورحمة الله هذه قد اقتضت أن يُعرِّف في كتابه بهذا الإنسان بما يغني ويشفي؛ فمن يكون هذا المخلوق صاحب المكانة الرفيعة، والدرجة المستعلية على كلِّ الموجودات، والتي تقترن في شرفها بشرف الله تعالى، وتشرِّف كلّ الموجودات بشرفه؟
إنّ أنسب ما نبدأ به تلك القضايا المعرِّفات بالإنسان الطريقة الجامعة لشتاتها، من خلال البحث عن تلك العبارة القرآنيّة، التي تكثِّف تعريف الإنسان، وتركِّز حقيقته. وهي عبارة بسيطةٌ في تركيبها، لكنّها معقَّدة وغنيَّة ومتشعِّبة في معناها وصورها. إنّها "الخليفة في الأرض"؛ فالله سبحانه وتعالى لمّا أعلن عن وجوده، فبتسميته ونعته بذلك، لا بتسمية أو صفة أخرى:﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰ﴾[البقرة:٣٠]. بهذا الإعلان تبدأ قصّة الإنسان في القرآن، ظهرت معه مكانته الراقية في الإسلام، وميزته الأولى، بل ومعرفه الأول؛ فالله تعالى خالقه أراد جعله خليفته في الأرض هويةً له، وفي نفس الوقت مهمّةَ وجوده المقدَّسة، ومعناها "الخلافة عن الله تعالى لتنفيذ مراده في الأرض وإجراء أحكامه فيها، وهذا معناه أن يكون الإنسان سلطانًا في الكون بغاية تطبيق المهمَّة التي كلَّفه بها المستخلِفُ- الله- ائتمارًا بما أمر وانتهاءً عمّا نهى" (خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، النجار، ص٤٧-٤٨).
إنّها مشيئة الله عزَّ وجلَّ الحاكمة والعليا "التي تريد أن تسلِّم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكِل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلّه - باذن الله- في المهمّة الضخمة التي وكَّلها الله إليه" (في ظلال القرآن، قطب،١/٥٦).
فالتسمية القرآنيّة بـ"الخليفة في الأرض" يأتي تحديدًا للهويّة السامية والوظيفة المقدَّسة والثقيلة. وأمّا ما ورد في القرآن من باقي التسميات أو التناولات المتعدِّدة المعرِّفة بالإنسان وطبيعته، فتأتي بمثابة تفاصيل، متناسبةً مع هذه الهوية، وخادمةً لتلك الوظيفة، تنضمُّ إلى سياقها وتتَّسق معها، وإذا شئنا القول: تعبِّر كلّ واحدة منها عن جانب من جوانبها (الإنسان بين الوحي والعقل، النجار، ص٤٧).
وإذًا، مع هذه البداية نستكشف هويَّة الإنسان الحقيقيّة، ومعرِّفه الأول والجامع في القرآن، وابتداء منها نتعرَّف ونفهم باقي التفاصيل من كيانه وعناصر تكوينه وتركيبه، وطبيعته وأشواقه وحاجيّاته وقيمته ودوره ووظائفه ومنهج حياته، وكلّ عناصر تعريفه القرآنيّة.
والملحظ المهم هنا أنّ هذه الهويّة الممنوحة للإنسان تمثِّل موقعه في المنهج القرآني، ضمن التصوُّر الكلّي للوجود؛ أي من الله ومن الكون، الذي هو "موقع 'الوسط، العدل، الحقّ'، فهو ليس محور الكون وسيّده، وإنّما هو خليفة الله فيه، وسلطانه في عالمه وسيادته على الطبيعة ليس مطلقًا، ولا هي بالسيادة المطلقة، وإنّما يحكمه ويحكمها إطار وبنود عهد الاستخلاف؛ ومن هنا يأتي مكان ومقام "الوسطيّة" في المنهج الإسلامي، فنراها "العدسة اللامّة" و"زاوية الرؤية" التي تميِّز هذا المنهج عن غيره إلى حدٍّ كبير" (معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة، ص ٣٧-٣٨).
والله سبحانه وتعالى حين قضى أنّ الإنسان خليفته في الأرض، لم يكلِّفه أمرًا ليس من طبيعته، ولا من إمكاناته وقدراته ومؤهّلاته وصفاته، بل جعله كذلك وقد خلقه مقَوَّمًا ومزوَّدًا بلوازم مهمَّته هذه وخصائصها، موهوبًـا لـه من الطاقـات والإمكانات اللازمة، والاستعدادات والقدرات.
من هنا، يمكن القول أنّ معنى استخلاف الإنسان في الأرض من حيث قدرته، أنّه تمكينه وإقداره "على التصرف في عالمه للتعبير عن إرادته والحصول على حاجاته، هو فطرة وطبع وإرادة تحمل في طياتها تكريم الإنسان بهذا المركز، ثمّ بالتميز بين الكائنات، مع كلّ ما يستلزمه هذا الاستخلاف، وهذه القدرات، من حقّ الحرِّيَّة، وحقّ الخيار لاتّخاذ القرارات الحياتيَّة، وما يستتبع ذلك بالضرورة أيضًا من واجبات ومسؤوليّات تلقى على عاتق الإنسان عن تصرُّفاته، واستخدام قدراته وطاقاته في خلافة الكون؛ صلاحًا وإعمارًا، أو فسادًا ودمارًا: ﴿إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرࣰا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:٣]، ﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا * قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ [الشمس:٧-١٠]،﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ *وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ* وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ * فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ﴾ [البلد:٨-١١]" (الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، عبد الحميد أبو سليمان، ص١٢٠-١٢١).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة