أ. راما ماهر الشجراوي أردنية، من أصول فلسطينية كاتبة للخواطر والمقالات، ومدونة في الجزيرة، حاصلة على شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية وآدابها وتعمل في مجال التعليم
غزَّة والعودة من الماضي بدون أمان
الأيّام في وتيرة سريعة من التراكض، تدفع نفسها خلف بعضها تدافعًا فتّاكًا، مَن بالأمس كانوا حولنا لكنّ اليوم أين هم عنّا؟!
كلُّ الأحداث حولنا في تضاخم.
تضيع بين أفكارك الباحثة عن السعادة، تحاول أن ترجع إلى الماضي حيث كنت تسبح بين أحلامك سعيدًا وأبله، لا تأبه ابدًا لما يحدث، ولكنّك في قرارة نفسك خائف من كلِّ شيء، خائف من لحظة ستنتشلك من أوج ازدهار مخيِّلتك.
الحرب لم تضع أوزارها بعد، لا زالت تقتل كلَّ بسمة بريئة، تقتل كلَّ حلم صغير، تقتل كلَّ أمل كبير، الحرب ذاتها التي قد نشبت بداخلك حين عدْتَ إلى أحضان مدينتك الصغيرة، حيث أحلامك دفنْتَ وودعْتَ.
في لحظة شرود منك قلت في داخلك، كيف لهم أن يدافعوا عن أرضٍ صغيرة؟ ما الخير فيها؟!
والآن أنت تعي تمامًا السبب.
تعرف حتمًا وحقًا بكامل قواك العقليَّة دون أدنى شكٍّ منك ما هو الدافع الذي يجعلهم يقدِّمون أرواحهم على راحة أيديهم، وأنت الآن على استعداد تامّ بأن تقاتل بكلِّ ما فيك من أجل مدينتك الصغيرة، تلك التي تقبع بداخلك ولم تُنزع منك رغم البعد.
وعدْتَ الآن حيث الشوارع تخيط لك الذكريات، والأشجار تَحفّ لك أصوات الماضي، والرمال تلتهب من حرارة الأشواق فتلسع أطراف أصابعك عند ملامستها وكأنّها تدقّ بداخلك كلّ أجراس الحنين التي سكتت منذ برهة من الزمن ليست ببعيدة.
والآن ها أنت عدْتَ لأيّام قليلة وستغادر كما غادرت سابقًا وستدع كلّ شيء خلفك ينتظرك من جديد.
ستذرف الدمعات وتسرح ثمّ تسرح وكأنّك تهرب بعيدًا عن واقعك القاسي بنظرك.
حتمًا جميعنا عدنا إلى الماضي آمنين وبسلام ولكن...
هل سيعود من يقبع في الخيام إلى بيوتهم يومًا؟!
هل ستستطيع عقولهم أن تسترجع ذكرياتهم التي دُفنت تحت الركام؟!
هل ستعود قلوبهم تنبض بالحبّ من جديد؟!
في كل ليلة ظلماء تشوبها ضجيج الصواريخ الغادرة، تتجمَّع كلّ مخيّلاتهم سويًّا ، يشكِّلون فيها غزَّة صغيرة يعيشون بين أحضانها آمنين.
ستغفو العيون وتنام ولكن تساؤلاتهم ستبقى تحوم فوقهم، تمطر عليهم ويلات الحرب والفقد..
ولا زالوا يحاولون أن يشكِّلون من كلماتهم، كلمات تصف شعور المفارقة، كيف لهم أن يتركوا كلّ تلك الذكريات التي تكوَّمت في حفنة من الأعوام أن يسترجعوها في ساعات وأيّام قليلة؟! تتدافع الدمعات تحاول مجاراة الأحداث، تحاول أن ترسم طريق العودة، كيف لهذا القلب أن يحمل كلّ هذا الحبّ لمدينة صغيرة؟ كيف لذكرياتهم أن تتناثر في الشوارع خلفهم راسمة طريق العودة في يومٍ ما؟..
و إن عادوا...
من سيعيد لهم كلّ تلك الأعوام التي طويت بحذافيرها المملّة؟!
من سيعيد لهم كلّ أولئك الذين مرّوا وتركوا أثرًا طيبًا ليعودوا إليهم كلّ ما سنحت لهم فرصة اللقاء؟!
هل سيكونون في ذات الضحكات والآمال؟!
هل ستنبعث أحلام الطفولة مجدَّدًا حيث سيرتمون بين أحضان الماضي باكين من هول صدمات الواقع؟!
هل سيمشون بذات الطرقات التي أوصلتهم إلى هنا؟!
هل سيتذكَّرون الشوارع والأرصفة والمباني؟!
أم ستلفظهم بعيدًا عنها لتتخلّى عنهم كما تخلَّوْا في لحظة قريبة من الموت عنها؟!
كم هو غريب الأمر عليك وعليهم أن تعودوا غرباء في أمكنتكم القديمة!..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا