وقفات... مع مؤيِّدات التوحيد في الأمّة والتحذير من الكدمات

لم يتقدَّم دين من الأديان في القديم والحديث من الزمان على دين الإسلام. في الحديث عن الرابط الإيماني المطلوب بين أبناء الدين الواحد، دين التوحيد والذي يتقدَّم على مجرّد الرابط اللفظي العاطفي فقط، ليكون فيه تجسيد عملي يتجاوز كلّ حدود التباعد الزماني والمكاني وكلّ الاختلاف اللغوي والثقافي وكلّ التعارض العرقي والنسبي، ليكون جامعه أخوّة الإسلام والإيمان والذوبان في بوتقة واحدة لا يفترق فيها من كان ملك في أيّ زمان مع من جاوره في المسكن وكان في كوخ أشبه بالركام، وبين من كان أسود اللون أعجميّ الكلام مع من كان أبيض اللون عربيّ البيان. فكلّ من ذكرنا على أخوّة الإسلام والإيمان يلتقيان لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. فقدّم الإيمان على النسب وجعل الإيمان أقوى من أيّ فاصل بين من كان رفيع القدر ومن كان وضيع النسب.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفسِّرًا حقيقة معنى الآية في حياة المسلمين الأخويّة الإيمانيّة: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى". فأيّ تعبير أشمل معناه وأصول مرماه من هذا الحديث الجامع لجوامع الكلم في ترتيبه ومغزاه؟ إنّه يصوِّر كلّ المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها بكلّ اختلاف هم عليه إلّا في وحدة الدين والإيمان، كأنّهم جسد واحد، إذا أصاب بعض منهم ما يضرّ تداعى كلّ من هم من دينه ولو كانوا في أقصى أرجاء المعمورة بالإحساس والمشاركة ولو اقتصر ذلك على الدعاء والرجاء. فمجرّد أن تشارك أخاك المسلم في مصابه ولو مشاركة وجدانيّة إذا تعذّر عليك المشاركة العمليّة هو من الحسّ الإيماني المطلوب والمرغوب والذي يعدّ أضعف الإيمان.
وقد يسأل أحد من الناس وحقّه أن يسأل: وهل هناك من إشارات وعلامات في هذا الدين الحنيف لها دلالات الوحدة المطلوبة والمشاركه في حياة الأمّة مع تباعد الأقطار واختلاف الأمصار؟ فنقول: نعم، إنّ ذلك موجود إلى أقصى حدود الإيجاد، وتجده أكثر ما تجده في العبادات والتي هي تجسيد روحي ومادّي في تحقيق مقاصد تلك العبادات والغايات التي تتجاوز الطقوس والشعائر الظاهريّة منها. وأوّل هذه الوحدة هي في الشهادتين والتي لا يدخل أحد حظيرة الإسلام إلّا بالنطق بها باللسان ـ والله أعلم بما في القلوب ـ ولكنّها مفتاح لا بدّ من امتلاكه لاختراق مغاليق الأختام. وبعد ذلك تأتي الصلاة التي تجمع المسلمين في صفّ واحد متراصّة الأكتاف فيه ومتلاصقة الأقدام. وتوحِّد الركوع والسجود والقيام فضلًا عن فاتحة الكتاب وما يجمع قوله في الختام، من التحيّات والسلام.
وإذا أتينا إلى الحجّ، الركن الخامس في الإسلام فتجد فيه ما يمكن عدّه أعظم تجمّع إيماني أخويّ، لم تحقّقه أيّة أمّة من الأمم في تاريخها من حيث التوحّد في المشاعر وفي المظاهر وفي الطواف وفي التلبية وفي الوقوف في عرفات وفي التروية وفي الرجم وفي الأضحية. فضلًا عن هذا السيل العارم من اللجّ في الدعاء ورفع الأكف والتضرّع بحناجر من قلوب صافية.
فهل كلّ ذلك ممّا ذكرنا ليس فيه ما يدعو إلى الاستفادة منه في واقع هذه الأمّة المرير، من حيث وحدة القضايا والمصير؟ حيث أنّ كلّ مظاهر الوحدة في الشعائر التي ذكرنا لم تترك من الأثر إلّا اليسير، ولم تنعكس على حياتنا العمليّة إلّا بمثل القطمير. وأمّا السواد الأعظم فيعيش بمنطق العزلة عن قضايا الأمّة والتقصير. ولنا في قضيّة المسلمين المركزيّة اليوم فلسطين بعروسها الأقصى وزهرتها غزّة خير برهان ودليل. فروح الوحدة بين المسلمين عليها تكاد تكون أقلّ من القليل من الحضور ورفع الصوت والنصرة والمشاركة بكلّ السبل والاقتصار على الحياد أو التنظير. ويكاد الصمت المطبق يجعل من مليار مسلم كأنّهم خشب مسنّدة في وجوه الأعداء المناكير، الذين ومن سبعين عامًا وأكثر جعلوا من مسرى النبيّ المصطفى ومعراجه إلى السموات العُلى أرضًا مستباحة للغزاة المارقين، وبالكاد تسمع الاستنكار والشجب باللسان الذي بل يكاد يبين.
إنّ ما أمر الله تعالى به في كتابه من إحياء روح الوحدة أكبر من أن يحصيَه لسان. والعجب أن تجد من يبحث في بدعيّة القبور والشرك في التوسّل وعدم الاحتفال بالمولد لأنّه من منكرات الزمان. وآخرون يبحثون في الاستواء وتنزيه الإله عن الزمان والمكان والبحث في الصفات والأسماء. وأكثر المسلمين لا يعرفون الفرق بين أحكام الصلاة وأحكام الصيام. وقوم يضاف إليهم القول أنّهم في ذكرى استشهاد ابن بنت نبي الله عليه الصلاة والسلام يقومون بكلّ ما يبعث على الندب ونبش الأحزان والشتم والقدح والتطاول على الأعلام.
إنّه ممّا لا بدّ منه أن تجتمع الأمّة على ما جمعها الله عليه وألّا تقف على ما يفرّقها ويشغلها عمّا ينبغي أن تكن فيه سدًّا منيعًا في وجوه أعدائها. فإنّ الأعداء على باطلهم يتوحّدون، وإنّ أهل الحقّ على الحق الذي بين أيديهم يتفرّقون. ولقد حذَّر الله عباده من ذلك فقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ}. فانظروا معي كيف ما جمعت فيه الآية من كون عدّ المتفرقين كمثل الكافرين وما يؤيّد النص القرآنيّ الحديث النبوي: "لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض". نسأل الله السلامة في الدين وأن يجمعنا على ما يحبّه ويرضاه اللهم آمين والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
قصّة حياة قرآنيّة
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..