د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الرابع
إذا كان المعرِّف القرآني الأكبر والجامع للإنسان أنه "الخليفة في الأرض"، فإنّه لا يكتمل فهمه إلا بتلك المبادئ الكبرى التي يرتكز عليها، بل وينطلق منها، فضلًا أنّها من المعرفات التفصيليّة به، نذكرها مختصرة فيما يلي:
-أ- مبدأ التكريم الإلهي:
وهو موضوع قرآني أصيل متعدّد الجوانب، يشمل في معانيه وصوره كلّ ما يتعلَّق بالإنسان وحياته في المعاش والمعاد، أجملَها الله تعالى بقوله:﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلࣰا﴾[الاسراء: ٧٠]، وهو بمعنى الإعلاء والإعزاز، يشمل الإنسان بمقتضى مطلق الإنسانية فيه، غير متعلِّق بعوارضها مهما كان نوعها، فهو رمز للرفعة المبنية على اعتبار ذاتية الإنسان مطلقًا عن كل الاعتبارات العارضة لتلك الذاتية ملازمة لها أو خارجة عنها.
والتكريم الربّاني بدأ مع الإنسان منذ اللحظة الأولى لوجوده، والإعلان عن استخلافه في الأرض، ورافقه ويرافقه في كلّ مراحل السير في هذه الحياة الدنيا حتى الآخرة. فهذا الإنسان صاحب مهمّة الخلافة في الأرض هو كائن كريم على الله، ذو مركز عظيم في تصميم الوجود -على الرغم من كلّ ما في طبيعته من استعداد للضعف والخطأ والقصور والتردّي-، ولكنّ استعداده للمعرفة الصاعدة، ولحمل أمانة الاهتداء، وللتبعة، يجعله كائنًا فريدًا، يستحقّ تكريم الله له، واختصاصه بمقام الخلافة في الأرض عنه -سبحانه- وقبول توبته، كما يستحق تلك العناية الإلهية به بإرسال رسله ورسالاته، وهو أكرم من كلّ ما هو مادي، لأنّ كلّ ما هو مادي مخلوق له.
-ب- الأمانة والتكليف:
وحتى لا يغترّ الإنسان بهذا التكريم، فيحسبه تشريف استعلاء واستكبار وإفساد في الأرض، فقد ضُبِطَ بمبدإ التكليف والمسؤولية، الواردين في القرآن بمفهوم 'الأمانة' في قوله تعالى:﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا﴾ [الاحزاب:٧٢].
إنّ الإنسان بموجب أنّه اختير أن يكون خليفةً في الأرض تكريمًا وتشريفًا، وحُفَّ بمختلف صنوف التكريم من كلّ ناحية وصوب، إنّما هو مؤتمن ومكلَّف بأداء استخلافه على هدى من الله ونور، ووفق منهج إلهي معيَّن، يتبعه من خلال الامتثال للأوامر والنواهي، وذلك اختباره وابتلاؤه؛ بأن يُرى كيف يعمل ويؤدّي المهمّة، وهو جوهر مفهوم الأمانة والتكليف لقوله تعالى:﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡ﴾ [الأنعام:١٦٥].
إنّها الأمانة العظمى إذًا التي حملها الإنسان بما هي مسؤوليّة شاقة وتكليف خطير، لم يخْفِ الله تعالى عنه هولها فقال:﴿إِنَّهُۥكَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا﴾، بتحمّله لها، فيما أبت السماوات والأرض والجبال حملها، التي رغم ضخامتها وعظم خلقها استشعرت صعوبتها، وباهظ ثمن تحمّل عبئها، وليست جمادية هذه المخلوقات كما تقول بنت الشاطئ هي مناط عجزها عن حملها، وإنّما مناطه ما نرى من ضخامة أجرامها وطاقتها على الحمل والتحمّل، فهي جميعًا أشفقت من الأمانة وأبت حملها، وحملها الإنسان، وأين هو من ضآلّة جرمه ومحدود طاقته، بالقياس إلى السماوات والأرض والجبال؟ أفلا تكون هذه 'الأمانة' هي الابتلاء بتبعة التكليف وحريّة الإرادة ومسؤولية الاختيار؟.
ذلك أنّ مقتضى كون الإنسان مكلَّفًا ومؤتمنًا ومسؤولًا أن يكون قادرًا على فعل ما يريد وترك ما يريد، حتّى تحقّ محاسبته على الإيفاء بما أمر به ونُهي عنه. إنّها الحريّة: ﴿فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡ﴾ الكهف:29، لكنّها الحريّة مع المسؤوليّة: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ﴾ [البقرة:٢٨٦]،﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ﴾ [الصافات:٢٤]،﴿بَلِ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِیرَةࣱ * وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِیرَهُۥ﴾[القيامة:١٤-١٥]. فالإنسان كائن مسؤول عن مصيره، وعن أداء خلافة الله في الأرض، بما هي حمله للأمانة والتكليف، ومنح حريّة الاختيار والإرادة والإدراك والمحاولة، ميَّزته عن سائر خلق الله؛ فكلّ المخلوقات تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبّر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلّف دورتها جزءًا من ثانية؛ وتؤدّي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
ولعلّ هذا هو ما يفهِّمُنا لِمَ أبت السماوات والأرض والجبال حمل الأمانة والتبعة؟.. لأنّها لا تملك من أمر نفسها شيئًا، لا إرادة ولا حريّة ولا اختيار، ولا إدراك ولا قدرة على المحاولة، فـ﴿حَمَلَهَا الإنْسَانُ﴾، لأنّه يعرف ربّه بالإدراك والتدبّر والمحاولة والجهد، وله أن يطيع ويعصي، ويؤمن ويكفر، ويزكّي نفسه أو يدسّيها، لكن في الآن نفسه، له أن يتحمّل عاقبة اختياره وحريته، ليكون جزاؤه من عمله. وتلك هي المسؤولية والتبعة مع الأمانة والتكليف.
-ج- التزكية:
من فضل الله سبحانه وكرمه على الإنسان 'الخليفة في الأرض' أنّه لم يدعه لنفسه -وهو الحر المختار المريد ابتداءً-، بل أعانه ليستقيم حاله على طريق التكليف، وتحمّل الأمانة والمسؤولية، وأدائها بحقّها، بحسن توظيف ملكاته بالشكل الأصلح والنهج الأسلم، بأن وضع له منهجًا سمّاه "التزكية" شرطَ صحّةٍ، ومؤهِّلًا للأداء الاستخلافي، وكما قال الأصفهاني: لا يصلح لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلّا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه، فللنّفس نجاسة كما أنّ للبدن نجاسة، لكنّ نجاسة البدن تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلّا بالبصيرة، وإيّاها قصد تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسࣱ﴾ [التوبة:28]، وبقوله: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر:٥]، وبقوله: ﴿كَذَ لِكَ یَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:١٢٥]. وإنّما لم يصلح لخلافة الله تعالى إلّا من كان طاهر النفس؛ لأنّ الخلافة هي الاقتداء به على قدر طاقة البشر في تحرّي الأفعال الإلهيّة، ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر القول والفعل؛ فكلّ إناء بالذي فيه ينضح، 'ولن يخلوَ مسك سوء عن عرف سوء'؛ ولهذا قيل: من طابت نفسه طاب عمله، ومن خبثت نفسه خبث عمله.
فلا بدّ إذًا من تزكّي الإنسان؛ إذ قيامه بالخلافة في الأرض على وجهها الصحيح، مشروط ومرهون بـأن يستقيمَ على هدى الله ومنهجه وشريعته، وأن يخلصَ العبوديّة له، وألّا يدّعي شيئًا من خصائص الألوهيّة، وأن يجعل سعيه كلّه لله الذي استخلفه في هذا الملك العريض، وأن يحكم منهج الله في ذاته وفي حياته، وإلّا تعرضت حياته كلّها للفساد، وتعرّضت أعماله كلّها للبطلان، وتعرّض لعذاب الله في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعًا.
وهكذا، فإنّ ما تقدّم من مبادئ ومنطلقات يمثّل تلك المفاهيم التي ينضبط بها فهم خلافة الإنسان في الأرض ويتأطّر بها، إلى جانب أنّها تتضمّن عناصر تعريفيّة بالإنسان وطبيعته وقيمته ومكانته في الوجود؛ فهو المخلوق المكرَّمُ المعزّز، والمكلّف المؤتمن، والحرّ والمسؤول، إلى جانب أنّه المتسامي المتزكّي.
وفي القرآن حقائق كبرى أخرى معرِّفة بالإنسان، دائرةٌ في إطار المعرّف الأكبر: 'الخليفة في الأرض'، متّسقةٌ معه، وخادمةٌ في سبيل أن تُؤدّى الأمانة حقّ أدائها، سنتعرّف عليها في المقالات التالية بإذن الله تعالى..
المراجع المعتمدة:
* الذريعة إلى مكارم الشريعة، الأصفهاني، ص ٨٦-٨٧.
* مقوّمات التصوّر الإسلامي، قطب، ص:٣٦٧، ٣٦٨، ٣٦٩.
* خصائص التصوّر الإسلامي ومقوّماته، قطب، ص ١٧٩-١٨٠.
* في ظلال القرآن، قطب، ٥/٢٨٨٤.
* مقال في الإنسان، بنت الشاطئ، ص٥٧-٥٩.
* قيمة الإنسان، عبد المجيد النجار، ص: ٨، ٢٦.
* أفعال العباد في القرآن الكريم، المجدوب، ص٧٥-٧٦.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة