د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الخامس
هناك حقائق قرآنيّة تفصيليّة تُعرِّف بالإنسان، التي تدخل تحت إطار معرفه الأكبر وهويّته الأولى؛ 'الخليفة في الأرض'، تتسق معه، وتخدمه في أداء مهمّة الخلافة، ويكون اسمًا على مسمًّى. وهذا التعريف القرآني التفصيلي بالإنسان طويل ذو شجون، لذا فإنّ أفضل طريقة تبويبه في عناوين مكثّفة، تيسّر التعرّف عليه بأسلوب منظّم مقرّب للفهم، التي تعكس ما له من خصائص لا توجد في غيره من الموجودات والكائنات. فنتناول هذه العناوين فيما يلي:
- خلقه في أحسن تقويم
إنّ لنا كمسلمين تصوّرًا متميّزًا في قضيّة خلق الإنسان وطبيعة تكوينه، مستمدًّا من كلام خالقه الأعلم به وبحاجاته وطبيعته. وكلّ كلام بشري في هذا الجانب منقوص، بل ومردود على صاحبه في كثير من أجزائه لا أساس له من الصحّة؛ لأنّه كلام مخلوق لم يشهد خلق نفسه.. فكيف يقدِّم القرآن الكريم خلق الإنسان وتركيبه؟ وما علاقة ذلك بمهمّته الاستخلافيّة في الأرض؟
يعرض القرآن الكريم لخلق الإنسان وتكوينه في بعدين:
الأوّل: الخلق المادي الجسدي الطيني؛ إذ حدّد المادّة التي خلق منها الإنسان الأول، في قوله سبحانه:﴿ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَـٰنِ مِن طِینࣲ﴾ [السجدة:٧]، وقوله:﴿إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی خَـٰلِقُۢ بَشَرࣰا مِّن طِینࣲ﴾ [ص:٧١].
الثاني: الخلق المعنوي الروحي النوراني؛ إذ جاء في قوله تعالى:﴿ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ [السجدة:٩]، وقوله:﴿فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ﴾ [ص:٧٢].
ويجمعهما معًا قوله عزّ وجلّ:﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ﴾ [التين:٤]؛ حيث يذكر بنيته الكاملة، وهيئته المكتملة الحسنة، بعبارة 'أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ' الذي هو 'أحسن تقويم له، يقتضي أنّه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتّضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإنّ غيره من جنسه كان دونه في التقويم' (تفسير ابن عاشور،٣٠/٤٢٣-٤٢٤). فيما ذهب النجّار إلى أنّ 'المقصود بالتقويم في بنية الإنسان هو التقويم الشامل الذي يتناول كُلًّا من البنية الماديّة والمعنويّة، فكلاهما خلق على أحسن تقويم، سواء بالنظر إليهما في ذاتهما، أو بالنظر إليهما في ترابطهما ووحدتهما في تكوين الإنسان' (قيمة الإنسان، ص ١٩). إنّها كما يعبّر رشيد رضا 'الجبلة الإنسانية الجامعة بين الحياتين: الجسمانيّة الحيوانيّة، والروحانيّة الملكيّة' (الوحي المحمدي، ص ٢٣٨-٢٣٩). ويقول سبحانه:﴿ٱلَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ* فِیۤ أَیِّ صُورَةࣲ مَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار:٧-٨]. ويبيّن ابن عاشور معنى كلّ من التسوية والتعديل بقوله:'والتسوية: جعل الشيء سويًّا، أي: قويمًا سليمًا، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتيّة متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختلّ بعضها تطرّق الخلل إلى البقيّة، فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس، أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم. والتعديل: التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين، وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها. وجعله مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما، ولو جعل العينين في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك موضع الأعضاء الباطنة من الحلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين، وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع. وخلق الله جسد الإنسان مقسمّة أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما، وجعل في كل جهة مثلما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين' (تفسير ابن عاشور،٣٠/١٧٥-١٧٦).
وهذا التقويم الأحسن إنّما يمثّل تجليًّا كبيرًا من تجليّات تكريم الله للإنسان وعظيم عنايته به، وإشارة إلى أنّ له شأنًا عنده، ووزنًا في نظام هذا الوجود، وإلى أنّه خلق لأمر عظيم، ولغرض رفيع، وكما يقول النجّار:'كلما كان الغرض رفيعًا كانت البنية إذا ما أدّت إلى تحقيقه رفيعة القيمة' (خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص٤٩-٥٠).
لقد خلق الإنسان بأرقى بنية، وأحسن تقويم، وأفضل صورة، تناسبًا تامًّا وانسجامًا كاملًا مع رفعة الغرض الذي لأجله وُجد، وهو الخلافة في الأرض بما هي تنفيذ حكم الله وهديه في الحياة الإنسانيّة على هذه الأرض؛ فلكي يستطيع الاضطلاع بها وينجزها على الوجه الأكمل، هُيِّئ لذلك في أصل خلقته من ناحية طبيعة تركيبه الذاتي الجامع، الذي 'يشتمل على جزء روحي يُمَكِّنه من السمو والعلو نحو الأفق الإلهي الأعلى ليقبس من هذا الأفق مضمون الخلافة أمرًا ونهيًا على سبيل الإدراك والاستيعاب والتحمّل، كما يشتمل على جزء مادّي يُمَكِّنه من مباشرة الأرض بالسعي فيها للإنشاء والتعمير' (قيمة الإنسان، ص١٩).
ولسنا بصدد أن نقف على خلقة الإنسان وأبعادها في ذاتها، بقدر ما نريد أن نبرز علاقة قوام الانسان الثنائي بالغرض الذي لأجله وجد، والوظيفة الاستخلافية المكلَّف بها، وكيف أنّ هذا القوام جاء على نحو يساعده على تأديتها. فكما أنّ الله سبحانه وتعالى جهّز هذا الكون، على نحو يصلح لحياة الجنس البشري، جهّز كذلك هذا الجنس البشري ببنية وقوام، باستعدادات وطاقات، وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون. وتفصيل كلّ هذا نتطرّق إليه في المقالات التالية بإذن الله وتوفيقه.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة