د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء السابع
العنوان الثاني في التعريف القرآني التفصيلي بالإنسان الذي يكثّف ذلك الجانب المتّصل بمسرح أدائه الاستخلافي وعلاقاته به، وفي نفس الآن يعكس خصائص هذا الإنسان ومميّزاته التي لا توجد في غيره من المخلوقات هو:
قيمته في الكون
تعرض الرؤية القرآنيّة الوجود على أنّه ثنائيّة طرفاها الله الخالق مبدأ الوجود وعلّة العلل، وكون مخلوق تتساوى الموجودات فيه من حيث وضعها الوجودي؛ تشترك كلّها في القصور الذاتي الذي صارت به معلولة لله، ولكنّها لا تتساوى من حيث وضعها القيمي، بل ينفرد الإنسان وحده بمنزلة قيميّة إزاء المنزلة القيميّة المنتظمة لكلّ موجودات الكون. معنى ذلك أنّنا عندما نتحدّث عن المخلوقات نكون إزاء ثنائيّة من طرفين: إنسان وكون، يتساويان في المخلوقيّة والمعلوليّة لله تعالى، لكنّهما يتفاوتان في القدر والقيمة عنده. أي أنّ الإنسان يتميّز بمرتبة يكون فيها أقرب إلى الله وآثر عنده، ثم يأتي الكون في مرتبة دونه قدرًا وأقلّ منه مقامًا. هكذا رتّب الله عزّ وجلّ مخلوقاته؛ حيث الإنسان في منزلة أدنى إلى الله من الكون كلّه، نسبته منه نسبة المخلوق الأثير الذي بُوِّئ مقام الخلافة، ونسبته من الكون هي نسبة المستعلي المستثمر له المتصرّف فيه بأمر الله [يراجع قيمة الانسان، النجار، ص٥-٧].
ولذا، يعتبر الحديث عن مقام الخلافة في الأرض حديثًا من وجهٍ عن منزلة الإنسان وقيمته في الكون وتعامله معه؛ ففي القرآن لا تجد عرضه للكون وتصويره يتمّ منفصلًا عن الإنسان وخصائصه؛ بل تراه يعرضه إمّا في سياق الاستدلال على قضايا الإيمان وحقائقه، وإمّا في سياق المنّ عليه بالنعم، وكشف السُنَن والنواميس والقوانين، ليعرِّفه كيف يستثمرها ويستفيد منها. وقد يجتمع الجانبان في موضع واحد، أو أنّ كلّ جانب يستدعي الآخر ليقوّيه ويعضده.
من هنا، يندرج حديث التصوّر القرآني للكون كفرع من تصوّر الإنسان والتعريف به، استنادًا إلى آيات كثيرة تربط الإنسان بهذا الخلق؛ كقوله تعالى:﴿هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ﴾ [يونس:٦٧]؛ حيث إقرار حقائق إنسانيّة مرتبطة بحقائق كونيّة: النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، وإبصار الناس وتصرّفهم في معايشهم ومصالح دينهم ودنياهم بسبب ضوء النهار [يراجع مثلاً تفسير السعدي، ص٤٢٤]، وقوله:﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ غافر:64، إذ يذكِّر الله عزّ وجلّ عباده بجعله الأرض قارّةً ساكنةً، مهيَّأة لكلّ مصالحهم؛ يتمكّنون من حرثها وغرسها، والبناء عليها والسفر، والإقامة فيها، وبجعل السماء سقفًا للأرض، فيها ما ينتفعون به من الأنوار والعلامات التي يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر[تفسير السعدي، ص٨٧٢].
وتأمل ذلك الربط بين تهييء المسرح الكوني وبين إعلان جعل الإنسان خليفةً:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة:29-30. فالله سبحانه وتعالى بنى الكون على نظام محكم، وجعله يسير وفق ناموس ثابت، ما سمح كما يعبّر قطب "بوجود الحياة في هذه الأرض ونموّها وارتقائها، كما أنّه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانيّة في شكلها الذي نعهده، ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنًا له وراحة واستجمامًا، والنهار مبصرًا معينًا على الرؤية والحركة، والأرض قرارًا صالحًا للحياة والنشاط، والسماء بناء متماسكًا لا يتداعى ولا ينهار، ولا تختلّ نسبه وأبعاده - ولو اختلت لتعذّر وجود الإنسان على هذه الأرض وربّما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيّبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان، الذي صوّره الله فأحسن صورته، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتّسقة مع هذا الكون، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطًا بهذا الوجود الكبير.. فهذه كلّها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى، ومن ثمّ يذكرها القرآن في مكان واحد، بهذا الترابط. ويتّخذ منها برهانه على وحدانيّة الخالق. ويوجّه في ظلّها القلب البشري إلى دعوة الله وحده، مخلصًا له الدين، هاتفًا: الحمد لله ربّ العالمين. ويقرّر أنّ الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلهًا، وهو الله ربّ العالمين" [في ظلال القرآن، ص٣٠٩٢].
هذا الكون يتمّ تصويره في كتاب الله العزيز والتعريف به من ناحيتين: الخلق، والوظيفة. ولسنا هنا معنيّين بالتطرّق إلى خلق الكون وأحداثه ومادّة نشأته ومراحل ذلك وتحوّلاته، التي يعرضها القرآن الكريم كحقائق كليّة أساسيّة، يمكن الرجوع فيها إلى مظانّها، لكنّ الذي يعنينا أكثر هو الحديث عن وظيفة هذا الكون، التي تخدم مسألة علاقته بالإنسان الخليفة في الأرض، وكيف أنّ وظيفة هذا الكون بنظامه ونواميسه تأتي منسجمة ومتوائمة مع وظيفة الإنسان، بل وَوُجِد على هيئة مقيسة على طبيعته ووظيفته الاستخلافيّة، التي تتمثّل في "مباشرة الإنسان للكون بالروح وبالجسم: اعتبارًا به واستثمارًا لمنافعه وخيراته" [الخلافة بين الوحي والعقل، النجار، ص٤٩]. ولذا تنقسم وظيفة الكون إلى قسمين أساسيّين:
* تدليل، لقوله تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ فصلت:53..
* تسخير، لقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ الجاثية:13.
إنّ الكون كتاب الله المنظور الذي فيه نقرأ حقائق هذا الوجود -إلى جانب الكتاب المسطور- فيوصل ويهدي إلى الإيمان وتوحيد الله، كما أنّه يوفّر للإنسان وسائل ومقوّمات قيامه بالخلافة. والكون هو كذلك "مسرح العمل الإنساني، إن بالمباشرة الفعليّة، وإن بالتأمّل والتدبّر" [قيمة الإنسان، ص٥٧]. ونبيّن كِلا العنصرين في عنوانين:
-أ- الكون دليل إلى الإيمان بالله وتوحيده: وفي كلّ شيء له آية **** تدلّ على أنّه واحد:
إنّ الله تعالى خلق هذا الكون ليُعْرَفَ به ويدلّ عليه وعلى عظمته وجلال قدرته، وفي كتابه الحكيم شواهد كثيرة على ذلك؛ فقد حضّ سبحانه وأمر بالنظر والتفكّر في ملكوته، حتّى نعلم عظمته وقدرته، ونصل الى الإيمان به وتوحيده. ومهما جال المرء بنظره وقلب في هذا الكون، فلن يرى إلّا جلالًا وجمالًا، وروعةً وعظمةً وقدرةً، واتّساقًا ونظامًا محكمًا يجري به؛ لا عيب، ولا نقص، ولا اعوجاج، ولا خلل، ولا تفاوت، وقد قال عزّ وجلّ:﴿ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَیۡنِ یَنقَلِبۡ إِلَیۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِیرٌ﴾ [الملك:٣-٤]، ومن ثمّ فإنّه لا يملك إلّا أن يخشع لله ويسلم له ويذعن:﴿ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلاً سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران:١٩١].
وها هو قوله الجامع:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ فصلت:53، يقرّ عزّ وجلّ مراده من حضّه من أمره وحثّه من النظر والتفكّر في خلقه بطرفيه "الآفاق والأنفس"، ألا وهو تبيّن الحق، وما عساه يكون غيره هو سبحانه، وجودًا ووحدانيّةً ربوبيّةً وألوهيّةً، وكلّ حقائق الإيمان به وعقائد الإسلام الكبرى؟. يقول قطب:"إنّ أهمّ ما يلفت القرآن نظرنا إليه، من حقيقة هذه المكوّنات المحيطة بنا، هو أنّها لسانٌ ناطقٌ وبيانٌ قاطعٌ، ينادي نداءً يفهمه كلّ ذي عقل وفكر، بأنّ هذا الكون من صنع صانعٍ وتدبير مدبّرٍ. فهو عنوانٌ جليٌّ بارزٌ على وجود هذا المكوّن ووحدانيّته، وعلى أنّه متّصفٌ - بمقتضى ذلك - بسائر صفات الكمال مبرّأٌ عن جميع صفات النقصان"[في ظلال القرآن، ص٣١٣٠].
فالشاهد إذًا، هو أنّنا حين نجد في القرآن نماذج من مشاهد الكون وحديثٌ عنه واستعراضه، فإنّها تساق مساق الاستدلال على وجود الله عزّ وجلّ، وصفاته المتجليّة فيه، بكلّ تفاصيله ومكوّناته العديدة الدقيقة الصنع، العظيمة الأهميّة والدور لحياة الإنسان/الخليفة في الأرض. فلأجل هذه المنفعة الإيمانيّة العظمى التي يحقّقها الكون للإنسان، اعتنى القرآن بإشباعه من هذه الناحية، فامتلأ بالآيات والبراهين الكونيّة، تنادي من يلقى البصر والسمع وهو شهيد، تعرض عليه دلائل وحقائق الإيمان، توجّه القلب إليها، وتوقظه من غفلته عنها، "هذه الغفلة التي تَرِد عليه من طول الألفة تارّة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارّة. فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديدًا حيّا يقظًا يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة والجذور" [في ظلال القرآن، ص٣١٢٤].
فهذه وظيفة الكون المهمّة والرئيسة؛ بأن جعل سبحانه كونه علامةً عليه ودليلًا إليه، ومظهرًا لألوهيّته ومجلىً لصفاته. وكما قال ابن رشد: "وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامّة، أن يفحص عن منافع الموجودات".
يُتبع
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير