الأكباد المحروقة
ما من لوعة تؤلم النفس مثل لوعة الفراق، لاسيما إذا كان لولد بار أو والد حنون أو أم رؤوم، أو زوج عطوف، أو أخ معطاء خدوم، وما يزيد اللوعة أن يكون الفراق قتلا، وما يزيدها أكثر أن يكون غدراً وغيلة، وما يحول اللوعة إلى صدع في الكبد ونيران في القلب أن تكون ممن وكل إليه حماية الناس وتوفير الأمن لهم، منذ أربعة أسابيع ومواكب الشهداء والشهيدات تملأ جنبات مصر، حضرها وباديتها، مدنها وقراها، نجوعها وكفورها، هؤلاء الشهداء الذين قتلوا غدرا وغيلة سواء في مذبحة الجمهوري أو المنصورة أو الاسكندرية أو المذبحة الكبرى عند النصب التذكاري أو الذين يقتلون كل يوم في المسيرات والتظاهرات وحتى الجنازات التي تملأ جنبات مصر منذ وقوع الانقلاب العسكري في الثلاثين من يونيو الماضي، شباب في عمر الزهور وفتيات وأمهات، ومهندسين وأطباء من كل أطياف المجتمع ومستوياته، خرجوا ليس من أجل محمد مرسي ولا من أجل الإخوان المسلمين الذين يختلف كثيرون منهم معهم، ولكن من أجل ثورة 25 يناير وأهم إنجازاتها وهي الدستور ومباشرة الحقوق السياسية وحماية الحريات، ومن أهمها اختيار من يحكمهم ومن يمثلهم في المجالس التشريعية وغيرها.
أصبح الناس في يوم وليلة فوجدوا أنفسهم قد خسروا كل شيء فخرجوا بصدور عارية وسلمية يشاهدها العالم أجمع ففوجئوا بالرصاص يوجه إلى رؤوسهم وصدورهم، فوقفوا أمامه شامخين غير خائفين لأن الحياة دون حرية أو كرامة لا قيمة لها، لكنهم تركوا خلفهم من أصيب بلوعة فراقهم لاسيما الأمهات والزوجات، زرت أحد الجرحى في المستشفى فوجدت أمه بجواره وقد فقدت أخاه في نفس المذبحة التي أصيب هو فيها، وأخوه كان الأصغر وكان الأحب إلى والديه مثل كل صغير، تحدثت الأم المكلومة معي بثبات وصبر عجيب وقالت: والله لم أتوقع على الاطلاق السَكِينة التي أصابتني عندما أبلغت بخبر استشهاد ابني كنت أعتقد أني سأفقد عقلي لو فقدته، لكني احتسبته شهيدا عند الله، لا أنكر أن قلبي يلتاع لفراقه وكبدي يحترق لبعده عني، غير أني أدعو الله أن يصبرني وأن يحرق كبد من حرق كبدي على ولدي، ثم أخذت المرأة تدعو قبيل الإفطار على من قتلوا ولدها بشكل شعرت معها أن دعوتها قد أصابت من دعت عليهم، لقيت بعدها زوجة ترملت بعد استشهاد زوجها ولديها أربعة أطفال، كانت المرأة متماسكة رغم أن زوجها ووري الثري قبل يوم واحد، ورغم لوعة الفراق لم تكف عن الدعاء على من رملها ويتم أطفالها، إن حرق أكباد الأمهات، وقلوب الزوجات، والانتقام من الأهالي لم يقف عند حد قتل الولد أو الزوج أو الأخ أو الأخت، وإنما العذاب المرير في إجراءات المشرحة والتلاعب في بعض تقارير وتصاريح الدفن، ومساومة الأهالي بين استلام الجثث أو الموافقة أن يكون التقرير مغايرا لحقيقة الوفاة، كلها أمور تزيد في معاناة الناس وإرهاقهم وروى لي بعض الأهالي قصصا لا تصدق عن العنت الذي يجدونه في مشرحة زينهم تحديدا، أما الجرائم الأكثر إثارة فهي مهاجمة الجنازات والمشيعين واحتجاز والد أحد الشهداء في قسم شرطة مدينة نصر خلال تشييعه ولده وكأننا دخلنا مرحلة الحرب الطائفية الدموية في العراق وسوريا.
إن مسيرات جنازات الشهداء التي وصلت إلى معظم قرى مصر خلال الأيام الماضية قد زادت من اللوعة وحرقة الأكباد لدى كثير من عموم الشعب، كما أشعلت الدعوات من الأمهات والزوجات على من قتلوا أبناءهم وأزواجهم ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فترقبوا عقابكم من الله أيها القتلة ولو بعد حين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة