د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
وللكون وظيفة ذات أهميّة عظمى وخدمة كبرى في الأداء الاستخلافي للإنسان تتمثّل في العنوان:
-ب- الكون مسخّر للإنسان:
هيّأ الله تعالى هذا العالم وسخّر موجوداته بحيث يكون صالحًا لاستقبال الإنسان وخدمته في مهمّته الاستخلافيّة؛ فحدّد الأبعاد والقوانين والأحجام بما يتلاءم ومهمّته تلك، وما يستجيب لقدرته على التعامل العمراني مع الطبيعة تعاملاً إيجابيًّا فعّالًا [النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص٤٢]. وإذا عدنا إلى آية الخلافة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة:30)؛ التي يعلن فيها عن مقدم الإنسان الخليفة، فقد سبقها مباشرة حديث عن آيات الله في الآفاق والكون: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:29)، في إشارة إلى أنّ الله تعالى هيّأ المسرح الكوني تمهيدًا لمجيء هذا الخليفة، وقد سوّاه له بأرضه وسمائه وما فيهما في نظام دقيق وبديع يجعل الحياة الإنسانيّة ميسّرةً وممكنة تتناسب فيها "النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كلّه- والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك؛ وكي لا تتحطّم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة" [قطب، في ظلال القرآن، ص٥٦].
وإذا أَجَلْنَا النظر في هذا البناء الكوني العجيب والبديع بكلّ تفاصيله ودقائقـه، في تراكب أجزائه بعضها مع بعض، وفي تراكب أجزاء أجزائه، وفي تراكب ذرّاته الدقيقة بكلّ معاني الدقّة، ومظاهر التناسق والتنظيم بين شتّى المكوّنات التي نراها، لعلمنا حقيقة واحدة؛ وهي أنّ كلّ ذلك مُعَدّ ومُسخّر لخدمة الإنسان لينسج له مقوّمات الحياة الطيّبة، وتهيّئ له متطلّباته وحاجاته وعيشه الهنيء الآمن، والله تعالى يقول:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ (الجاثية:13). فها هي الأرض مثلًا التي جُعلت على وزن معيّن، يمدّها بقدر معيّن من الجاذبية، التي هي بدورها مقدّرة بالقدر الذي يقيم الإنسان في حياة منتظمة عليها!.. فلو زاد هذا الوزن، لزادت الجاذبيّة، التي لو زادت، لما استطاع الإنسان أن ينتقل عليها، ولا التصق بها، فما يملك إلّا أن يجرّ نفسه عليها جرًّا. أمّا لو قلّ الوزن، لقلّت الجاذبية، ولما أمكن أن يستقرّ عليها الإنسان كما يريد. وهذا معناه أنّ للأرض غاية هي أن تكون قرارًا ومهادًا للإنسان يجد عليها مستقرّه الآمن، والله تعالى يقول:﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَاراً﴾ [النمل:٦١] [يراجع البوطي، كبرى اليقينيات الكونية، ص ٩١-٩٢]
والتسخير معناه تفويض الإنسان وتوكيله من ربّه حقّ التصرّف في خيرات الكون بما يرضي الله، ويحقّق منافعه ويلبّي حاجاته، وهذا من تكريم الله له، ليتحكّم في الكون بحرية كبيرة؛ إذ "باكتشافه قوانين الكون وسنن الله فيه، وبسيطرته على هذه القوانين وتلك السنن يصبح حاكمًا لا محكومًا، لأنّ اكتشافاته هذه وسيطرته تلك هي كُنْه ما يريده الإسلام ويعنيه من وراء الاقتراب من الله، والتشبّه والاتّصاف بصفاته.. فالله هو قانون الكون الأعظم، وطاعة الإنسان لهذا القانون الأعظم تعني الاتّصاف بصفاته والتسلّح ببعض قدراته إلى الحدّ الذي يسخّر فيه القوى الطبيعية على ما يحكمها من قوانين" [عمارة، الإسلام والثورة، ص٤٥-٤٦].
وقد جعل الله تعالى هذا التسخير للمخلوقات بطريقتين:
- الأولى: تسخير ذاتي مباشر لا دخل للإنسان فيه، وذلك عن طريق تلك "القوانين التي خلق الله العالم عليها، وجعلها بحيث تسدّ حاجات الإنسان المتباينة دون أن يكون له يد في تسييرها أو قدرة على تغيير مجراها" [مهنا، الإنسان في القرأن الكريم، ص٤٨]، يقول تعالى:﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (إبراهيم:32-٣٣).
- والثانية: بتدخل الإنسان وسعيه وعمله في استثمار المخلوقات واستخدامها لتلبية متطلّبات عمرانه المختلفة؛ وذلك بما وهبه الله تعالى من ملكة العقل والتفكير، والقـدرة المذهلة على العلم والتعلّم؛ فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان "ووهب له عقلًا محيطًا بالأشياء كلّها، ووضع في هذا العقل خاصّة باهرة يستمكن بها من معرفة الأسرار والظواهر، ويهيمن بها على شتيت من القوى والعناصر، إنّ هذا المحدود في أعضائه ومشاعره يملك طاقات ضخمة تجعله سيّدًا لما حوله، بل تجعله ملكًا واسع السلطان ممدود النفوذ" [الغزالي، علل وأدوية، ص٧]. في هذه الطريقة نجد مثلًا قوله تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل:14).
والطريقتان التسخيريتان مقترنان في آيات عديدة، كقوله سبحانه:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك:15)، وقوله عز وجل:﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا* لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا﴾ (نوح:19- 20).
وكلا التسخيرين من تفضيل الله وتكريمه للإنسان، ولإعلاء شأنه ومنزلته بجعله سيّدًا في الكون، متحرّرًا من أوهام وأساطير الرهبة والصراع والتأليه والعبوديّة، وما إلى ذلك من مفاهيم تتّصل بعلاقة الإنسان بالطبيعة. يلحّ القرآن الكريم على تأسيس العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو الكون على أساس الوحدة والاتفاق والانسجام والرفق، لا الرهبة ولا التأليه ولا الصراع، من خلال التقرير "أنّ الإنسان 'سيّد' في الطبيعة، وأنّ هذه الظواهر الطبيعيّة التي طالما رهبها حتّى عبدها إنّما هي 'مسخرة' له، بل إنّها لم تخلق إلّا لتكون 'مُسخَّرة' لهذا الإنسان!... فهنا ثورة وانقلاب جذري في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، يحدثهما ذلك التصوّر الجديد الذي يقدّمه الإسلام عن الكون للإنسان… يحرّره من العبوديّة؛ عبوديّة الطبيعة وظواهرها، وينقله إلى مكان 'السيّد' الذي ما خلقت هذه الطبيعة وظواهرها إلّا لخدمته وتحقيق الشروط الضروريّة لرقيّه وإنسانيّته… وهكذا، لم يكتف الإسلام بتكريم الإنسان، وبتحريره من قيود الرهبة من الطبيعة وإسار العبوديّة لها، بل لقد ارتفع بمستوى تحريره إلى الحدّ الذي قـرّر فيه أنّ هذه الطبيعة وقواها وظواهرها إنّما هي جميعًا مسخّرة لهذا الإنسان" [عمارة، الإسلام والثورة، ص ٣٨-٤١].
والتسخير في المنظور القرآني للكون في علاقته بالإنسان هو مفهوم منسوجٌ بمفاهيم وقيم التراحم؛ من تآلف وتوافق ووحدة وارتفاق، فالله تعالى خلق كلًّا من الإنسان والكون، وبينهما التقاء والتئام وتناسب وارتباط في إطار الوجود والمخلوقية.
ولنتأمّل تلك التعبيرات القرآنيّة الدالة على التسخير، كلفظ 'فراشًا' في قوله تعالى:﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً﴾ (البقرة:22)، الذي "يشي باليسر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنًا مريحًا وملجأً واقيًا كالفراش.. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهّده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهّد لهم وسائل العيش، وما سخّره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع. ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم، لشقّ على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتّى لو قدرت لهم الحياة!" [قطب، في ظلال القرآن، ص٤٧].
وتعبير 'مِهَادًا' في قوله تعالى:﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا﴾ (النبأ:6)؛ أي "الممهّد للسير.. والمهاد الليّن كالمهد.. وكلاهما متقارب. وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته" [ قطب، في الظلال، ص٣٨٠٤].
وتعبير 'ذَلُولًا':﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ (الملك:15)؛ أي جعل الأرض ذلولًا معبدة و"مسخّرة لا تمتنع، قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وإنباط مياه، وزرع حبوب، وغرس أشجار وغير ذلك، غاية الانقياد بما تفهمه صيغة المبالغة" [البقاعي، نظم الدرر، ٢٠/٢٤٤].
وقس على ذلك تعبيراتٍ قرآنيّةً كثيرةً، ومشاهدَ تصويريّةً موحيةً بمعاني التوافق والود والانسجام بين الإنسان وعناصر الكون والطبيعة، وكلّها تبغي تحرير الإنسان من أغلال الخوف وقيود الرهبة، أو فكر الصراع مع الطبيعة وقهرها، الذي يتجلّى واقعيًّا في نهب الثروات والموارد بدون رحمة ولا رأفة، واستنزافها وقهرها وهدرها، إضافة إلى قضيّة التلوّث ومظاهر من الفساد لا تخفى. ثمّ إن الإنسان لا يحتاج لقهر الطبيعة والخلق، فيما الكلّ مسخرّ له بتسخير الله تعالى، وتمكينه من كل ذلك: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف:10)؛ فما عليه إلّا استثمار ذلك كلّه، والاستفادة منه.
إنّ القرآن يقيم بين الإنسان/الخليفة وعناصر الكون كلّها علاقات الود والرحمة والرفق، وينبّهه في نفس الوقت إلى أنّ عليه أن يستعمل سائر ملكاته وإمكاناته الذاتيّة، وطاقاته التي زوّده الله تعالى بها لبناء هذه العلاقات بالشكل المناسب: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الرعد:78)؛ فهو في حاجة ماسَّة وضرورية إلى هذه الأدوات والقوى، كما أنّه في حاجة ليشحذها، ويضاعف طاقاتها، من خلال النظر في الكون، والمشاهدة والتدبّر والتفكّر والتعقّل ليتمكّن من حسن استثماره، وكذا تنمية طاقاته وتطويرها، وإلّا فإنّ تعطيلها عن ذلك يصيبها بالكسل والفتور، أو يؤدّي بها إلى الانحراف والفساد في الأرض. [يراجع العلواني، الجمع بين القراءتين، ص ٣١-٣٢].
خلاصة القول إذًا، أنّ القرآن يمتلئ بتأكيد مفهوم تسخير الكون للإنسان، بما ينسجم مع متطلّباته، ويلبّي حاجاته الروحيّة والماديّة، وذلك كلّه في سياق توجيهه للقيام بوظيفته الاستخلافيّة في الأرض، في إطار التكريم الإلهي له من خلال صلته بالكون، وحدةً ورفعةً وتسخيرًا. ولا يخفى ما يمثّله هذا كلّه من جانب تعريفي محوري بالإنسان في القرآن الكريم.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!