د.غنى عيواظة: دكتوراه في الفقه المقارن، محاضِرة جامعيّة شاركت في العديد من المؤتمرات الدّوليّة والنّدوات.
الأُسرة السوريّة خارج القضبان
مواكبةً لموضوع الأُسرة، الذي أَوْلاه الإسلام حيِّزًا كبيرًا ومهمًّا في الفقه الإسلامي والشّقّ الاجتماعي، لا يسعني، مع ما نمرُّ به من أحداث قلبت الوضع رأسًا على عقب لصالح الحقّ في الانتصار على الظّلم، وكبح نفوذ الشّرّ وإغلاق سجلّات سوداء في التّاريخ المعاصر من سجن وتعذيب وقتل لم تزد على حقبات القمع الوحشيّ والإسكات القسريّ إلّا ألوانًا إضافيّة قاتمة، وقد توالت على أسماعنا وأعيننا مشاهد قاسية من أروقة السّجون وقصص التّعذيب، إلّا أنْ أقفَ اليوم أمام الأُسَر، لا سيّما السّوريّة منها، ومن واكبها من جنسيّات مختلفة، وقفة إجلالٍ وفخرٍ وتقديرٍ ومواساةٍ وعزاءٍ ودعمٍ ودعاءٍ لمصابهم الجَلَل فيما أصابهم على مدى عقود متوالية في أبنائهم وبناتهم وأزواجهم وزوجاتهم وأهليهم من قهر وإذلال، وما يعجز القلم عن وصفه، فيقف مشدوهًا للقساوة الحاصلة مسطّرًا قوله سبحانه: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}( هود:١٨)، وناقلًا قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}( البقرة:١٥٥)، وقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور} (آل عمران:١٨٦).
وجلّ التّهم الموجّهة إليهم بأنّهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمّدًا رسول الله، ويعلون كلمة الحقّ، ويطالبون بحرّيّتهم خلف قضبان أقبية سلخت جلودهم كما تسلخ الشّاة، بل إنّنا أمرنا في دين الإسلام بأن نحسن الذّبح مراعاة لشعور الشّاة، بأن لا تعذّب عند ذبحها، ولا تقتل أمام أختها، وهي تذبح باسم الله لا باسم الطاغوت.
لقد وصلت لمسامعي بعض الهمسات المتسائلة أين الله، جلّ في علاه، وحاشاه يُسأل عنه بذلك، والشّاكّة بعدله، وحاشاه سبحانه تعالى وتعالى عمّا يصفون علوًّا كبيرًا.
فلينظر الواحد منّا إلى قصص الذين خَلَوْا، وقصّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم كم تعذّب وكابد وتحمّل لينطق النّاس بالشّهادتين، ويحقّ الحقّ بكلماته ولو كره الكافرون، ألم يعذّب بأهله، ألم يحاصر في شعاب مكّة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ألم يقتّل الصّحابة وجلدوا في حرّ الشّمس وسُرِقت منهم أموالهم وبيوتاتهم، حتّى أُذِنَ لهم بالهجرة، وطالتهم قوى الشّرّ الخارجيّة، وتآمر عليهم القاصي والدّاني، وحيكت ضدّهم المؤامرات بالتّرغيب والتّرهيب ليتركوا دينهم وما هم عليه، فاختاروا الثّبات على الحقّ، ومضوا لا يثنيهم عن دينهم لومة لائم، حتّى جاء نصر الله والفتح، ودخل النّاس في دين الله أفواجًا، وكان حقًّا على الله نصر المؤمنين مهما طال بهم الزّمن بعدما تحمّلوا من غدر العدو وتنكيله ما تحمّلوا.
وما روي عن خبّاب بن الأرتّ أنّه قال: ' أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، وهو في ظِلِّ الكَعْبَةِ وقدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ألَا تَدْعُو اللَّهَ، فَقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجْهُهُ، فَقالَ: لقَدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بمِشَاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحْمٍ أوْ عَصَبٍ، ما يَصْرِفُهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُوضَعُ المِنْشَارُ علَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فيُشَقُّ باثْنَيْنِ ما يَصْرِفُهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ولَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هذا الأمْرَ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، ما يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، زَادَ بَيَانٌ: والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ'، وكذا في قصّة أصحاب الأخدود حين كانوا يقذفون في النّار أحياء، فقال الله سبحانه في معذّبيهم: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }(لبروج:4-7).
وما أشبه اليوم بالبارحة في قصص رواها البعض قائلين: 'كنّا نموت مئة مرة قبل أن نصل للموت الحقيقيّ، وإنّ الموت المباشر لأهون على أحدنا من ألوان التّعذيب تلك، بل كان السّجّان يخيّرهم في اختيار طريقة ميتتهم بإبداع لبثّ الرّعب فيهم، حتّى مات منهم من مات جرّاء الخوف'، نعم هو الظّلم في أبشع صوره، ولكنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة.
إنّ عصر الفراعنة، الذي ما إن يولّي عنّا حتّى يعود إلينا بوجوه جديدة في شتّى بقاع الأرض، ليبقى شاهدًا لأهله المحتسبين الصّابرين، وعلى أهله الجبابرة المستبدّين.
نقف في الرّحلة الحاليّة للظّلم، غير الأخيرة، فللظّلم وللباطل جولات في الميادين مع الحقّ وأهله، لنرى معان ونسمع همسات في التربية، ينبغي أنْ نعودَ إليها مرارًا وتكرارًا لأهمّيّتها في البداية والنهاية ومنتصف طريق الحياة، إذ قد يضل الإنسان فيها لقلّة وعيه ونقص إيمانه، وانغماسه في ملذّات الحياة، ندعو إليها في جلسات عائليّة، وعلى منابر أئمّة المساجد في خطب الجمعة والدّروس فيها، وفي المدارس ومع المربّين ومراكز وجمعيات موجّهة مرشدة للمجتمع، لنضع سويّة لبِنات في بناء الإنسان عامّة، والمسلم والمسلمة خاصّة، فقد يضيع ويغيب عنّا وعن أولادنا حماة الدّنيا من البشر لظروف قاهرة من حروب وغيرها، لتتيقّن نفوسنا حينها بأنّ النّاصر والحفيظ هو الله سبحانه وحده لا شريك معه.
فنحتاج لنا ولأبنائنا:
١- تثبيت عقيدة التّوحيد والتّوكّل على الله سبحانه، واستشعار معيّته معنا، فما كان ربّك نسيًّا.
٢- كذا نحتاج لأن نتمسّك بدين الإسلام مهما عصفت بنا الأيّام، وغرّبت النّوافذ نحو رياح الشّدّة والمصائب.
٣- أنْ نعِيَ نظريّة الأمان والإهلاك، ومفهوم الابتلاء عامّة فيما قاله سبحانه: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود : ١١٧)، وقوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} (الطّلاق:٨)، وقوله تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}( النّحل:١١٢).
٤- أنْ نحرصَ على الشّجاعة في قول الحقّ، وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 'أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: كلمةُ حقٍّ عندَ سلطانٍ جائرٍ'.
٥- ألّا نبتئسَ لضرّ نزل بنا، والله غالب على أمره مهما طال الزّمن، ولينصرنّ الله من ينصره، ونحن الأَعْلَوْن إنْ كنّا مؤمنين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
القول الفصل.. بين الظلم والعدل!
الأُسرة السوريّة خارج القضبان
هل انتصرت سوريا أم انتصر أعداؤها؟
ما الذي يحدث اليوم في سورية؟
مَعركةُ الأمّةِ الأولى