العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة
كتب بواسطة د. بلال نور الدين
التاريخ:
فى : المقالات العامة
210 مشاهدة

يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد. لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
لقد خلق الله جل جلاله الإنسان، ذلك المخلوق المكلف المكرم، وأوكله مهمة راقية وأمانة عظيمة شرَّفه بحملها، وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً. وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً بما يتناسب مع حجم الأمانة التي حملها مختاراً، ووعده جنة عرضها السماوات والأرض في زمن غير محدود، بل لا نهاية له سماه الآخرة إن هو أدى الأمانة كما يرضى الله تعالى في زمن محدود سماه الحياة الدنيا {وللآخرة خير لك من الأولى}.
ويكون ذلك حين يحسن العبد استخدام الأدوات التي بين يديه في سبيل معرفة الله تعالى وعبادته. والجوارح واحدة من تلك الأدوات التي تمثل النافذة الأساسية على العالم الخارجي، وإن استخدامها كما يرضى الله تعالى ويحب لهو طريق مهم جداً في مسير العبد إلى ربه.
إن الحقيقة الأولى التي ينبغي ذكرها هنا أن بعض المسلمين قد فهموا أن الدين يتلخص في مجموعة من العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج. ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير، إذ إن لكل جارحة عبادة خاصة بها، وما لم تنضبط الجوارح بمنهج الله تعالى فإن ثمار الدين من سعادة وطمأنينة وسكينة في الدنيا وفوز بجنة الله ورضوانه في الآخرة لن تقطف أبداً.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الجوارح التي وهبك الله إياها ليست ملكاً لك، ويدك عليها يد أمانة وليست يد ملك. ألا تسمع إلى قوله تعالى {إنا لله وإنا إليه راجعون}؟ لنقرأ الآية هكذا: {إنا لله} نحن لله وليس لنا شيء، وكل ما بيدنا هو منة وفضل منه جل جلاله.
ومن المعلوم لديكم أن المؤتمن على شيء لا يمكن له أن يتصرف به بخلاف تعليمات المالك. فكيف إذا كان المالك هو الله تعالى مالك الملك، وكيف إذا كان المالك هو الخالق والصانع جل جلاله؟ إذاً هو المالك والصانع في الوقت نفسه، ولا شك أن تعليماته يجب أن تتبع لأنه الخبير العليم بما خلق {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
تعليمات المالك الصانع بين أيدينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وتطبيقها ضمن إمكاننا وبوسعنا، وفي الدرجة الأولى لصالحنا. يقول الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}. فالأذن مثلاً يجوز لها أن تسمع القرآن والحق، ولكن لا يجوز لها أن تسمع الباطل واللغو. واللسان له أن يتكلم بالحق وأن يدعو إليه، ولا يجوز له بحال أن ينطق بالباطل أو أن يدعو إليه. أما العين فهي النموذج الذي سندرسه بشيء من التفصيل في هذه المقالة إن شاء الله تعالى، استنباطاً من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لنبدأ أولاً بالعين المحمودة في الكتاب والسنة:
إن أول عين يحبها الله ورسوله هي العين التي تنظر في ملكوت السماوات والأرض. يقول تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} و{فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير}. أليس كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلافه؟ وهذا أمر {انظر}. هذه العين من أجل أن تلتقط بها صوراً من هذا الكون ثم تنقلها إلى عقلك تفكراً وتدبراً وإلى قلبك محبة وشوقاً، فبعقلك تصل إليه عظيماً وبقلبك تحبه منعماً.
الكثيرون نظروا في الكون فما زادهم ذلك إلا بعداً وشقاءً، لأنهم ما نقلوا الصورة إلى عقلهم تفكراً ثم إلى قلبهم حباً، أو أنهم نقلوها إلى عقلهم فقط بما ينفعهم في أمور دنياهم فحسب.
العين الثانية المحمودة هي التي تغض عما حرم الله تعالى النظر إليه. قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون}. لقد خلق الله تعالى لك آلافاً مؤلفة من المشاهد التي يحل لك النظر إليها، ومنعك من بعضها زكاة لك وحفظاً، ولكن البعض يأبى إلا أن ينظر إلى ما حرم الله تعالى، فالنظرة إلى الزوجة شكراً لله وامتناناً له طاعة تمضي وتبقى ثمارها وثوابها، والنظر إلى المرأة الأجنبية معصية تمضي وتبقى حسراتها وعقابها. فهنيئاً لمن اختار الطاعة فإنه ما خسر شيئاً بل ربح الثواب والأجر من الله تعالى.
يقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "حرمت النار على عين غضت عن محارم الله". عينك مخلوقة للجنة، فإياك أن تحرقها بنار الشهوة في الدنيا فيطهرها الله بنار العذاب في الآخرة.
العين الثالثة هي التي تبكي من خشية الله. عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". أما عن أحوال الخائفين فهي أكثر من أن تحصى في هذا المقام. يقول الصادق المصدوق: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعداء تجأرون إلى الله تعالى".
ويقول عبد الله بن عوف رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. ومر عليه الصلاة والسلام بإخوانه وهم حول قبر يدفنون رجلاً، فبدر من بين أيديهم ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه وقال: "أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا".
وهذا أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول عنه القرآن: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}. وكان سيدنا أبو بكر يقول: "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا". وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته. وبكى أبو هريرة في مرضه فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكن أبكي لبعد سفري وقلة زادي، أصبحت في صعود مهبطة على جنة ونار فلا أدري إلى أيهما يسلك بي.
وقالت فاطمة بنت عبد الملك، امرأة عمر بن عبد العزيز: "ما رأيت أحد أشد فرقاً من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء جلس في المسجد ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلم يزل رافعاً يديه يبكي حتى تغلبه عيناه". وبكى يوماً فبكت فاطمة فبكى أهل الدار لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء. فلما تجلى عنهم قالت له فاطمة: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، مم بكيت؟ قال: "ذكرت منصرف القوم بين يدي الله تعالى، فريق في الجنة وفريق في السعير"، ثم بكى.
أما مجالات البكاء والخشية فواسعة جداً، فالخوف يكون من التقصير في حق العبودية لله ويكون مهابة لله عز وجل، ويكون خوفاً من غضب الله تعالى، ويكون خوفاً من الاستدراج ومن محبطات العمل، ويكون من سوء الخاتمة، ويكون من سكرات الموت ويكون من أهوال يوم القيامة، وقبل كل ذلك يكون الخوف من عاقبة الذنوب.
فمن منا لم يذنب؟ من منا لم تقع عينه على ما حرم الله في يوم من الأيام؟ من منا لم يسيء الظن بمسلم طوال حياته؟ من منا تحرى الحلال في كل ما طعم طوال حياته؟ من منا لم يظلم أحداً ولو مرة في حياته؟ فإن كنا لا نذكر شيئاً من الماضي فالله لم ينس: {أحصاه الله ونسوه} {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}.
فأنا وأنت من ذنوبنا على يقين ومن حسناتنا في شك، فكم من هفوات وأعمال قمنا بها لا تساوي شيئاً في أعيننا لكنها قد تكون عند الله عظيمة: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}. يقول أنس بن مالك: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات" (رواه البخاري).
العين الرابعة هي التي باتت تحرس في سبيل الله تعالى أو باتت ساهرة في سبيل الله. "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". عن أبي رَيْحَانَةَ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فسمعه ذات ليلة وهو يقول: "حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله، وحرمت النار على عين دَمَعَت من خشية الله". قال: وقال الثالثة، فنَسِيتُها.
قال أبو شريح: سمعت من يقول: "حرمت النار على عين غضت عن محارم الله، أو عين فقئت في سبيل الله عز وجل". فأما العين التي باتت تحرس في سبيل الله فهي عند الله بمكان عال جداً، وأما العين التي سهرت في سبيل الله فبابها واسع جداً، فقد تسهر الأم على راحة ابنها، وقد يسهر الطبيب على راحة مريضه، وقد يسهر الطالب على دراسته، وكل ذلك في سبيل الله، وقد يسهر الأمير على راحة رعيته. يقول سيدنا عمر: "إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي وإن نمت نهاري أضعت رعيتي".
العين الخامسة المحمودة هي التي تبكي عند سماع الحق والقرآن. {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}. {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}.
قرأ سيدنا عمر يوماً سورة الطور حتى إذا بلغ {إن عذاب ربك لواقع} جعل يبكي حتى مرض وعادوه. وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} جعل يرددها ويبكي حتى أصبح.
والعين السادسة هي التي تبكي رحمة بعباد الله تعالى. حين ماتت رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "دعهن يبكين، وإياكن ونعق الشيطان". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يكون من القلب والعين فمن الله، والرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان".
وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة إلى جانبه تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم" فذكر الحديث. قال أنس: لقد رأيته يكيد بنفسه (أراد أنه قارب الموت) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون".
ما لم تتألم لما يجري بإخوانك المسلمين في شتى أقطارهم، وما لم تتعاطف معهم في أقل الأحوال وتحزن لما آلت إليه حالهم، فيجب أن تراجع حساباتك، ففي الإيمان خلل كبير. كأن أعداءنا يريدون أن يميتوا في داخلنا الحس الإسلامي، أن نتابع أخبار المسلمين وما يجري عليهم وما يحاك ضدهم من مؤامرات ونحن نتناول فطورنا ونحتسي كأساً من الشاي وكأننا نتابع حكاية شيقة ذات فصول عديدة، وتلك هي الطامة الكبرى. "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
أما العين السابعة فهي التي تبكي حزناً على ما فات صاحبها من الخير. يقول تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوكَ لتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}. قد تكون فقيراً ولكنك تتمنى أن تنفق وتسعى لذلك. قد تفوتك صلاة وتفوت غيرك، فأما أنت فتدمع عينك حزناً على ما فاتك من الخير، وأما الآخر فلا تتحرك فيه شعرة. هذه الدمعة يحبها الله تعالى منك ويرضى بها عنك.
وأما العين الثامنة فهي التي تنظر في أفعال الله تعالى. قال تعالى: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}. تنظر في أفعال الله تعالى نظرة اعتبار وتأمل تدفع إلى العمل والخوف من الله تعالى والرغبة بما عنده.
يُتبع...
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة
وقفات وعبر من هجرة خير البشر
من تعاليم الهجرة
صفحة لا تُنسى من الإفك الأثيم
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السابع