د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثامن

أول لبنة وضعها القرآن في تشكيل العقلية القويمة وإصلاح تفكير الإنسان، مدّه بالتصوّر الاعتقادي الصحيح كأساس يحدد نمط سلوكه في الحياة، وبناء نظامها ونوع هذا النظام. إنها الخطوة الأساس التي تحرر العقل، وتكرمه، وتضعه في موقعه الصحيح، التي هي عبارة عن تعريف الإنسان بنفسه وتبصيره بحقيقته وبمختلف مزاياه وطبيعته، وبرسالته في الحياة ومهمته، وبالكون المحيط به، والحياة التي يحياها.
ذلك لأنه يريده أن يكون عارفاً بنفسه وبرسالته وغاية وجوده، وبالإمكانات المهيأة له، حتى 'يكون عنصراً صالحاً في بناء أمته، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز، وعنصراً قادراً على القيادة والإنقاذ. فالتصور الاعتقادي هو أداة التوجيه الكبرى، إلى جانب النظام الواقعي الذي ينبثق عنه، ويقوم على أساسه، ويتناول النشاط الفردي كله، والنشاط الجماعي كله، في شتى حقول النشاط الإنساني'[قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص٥-٦].
وبتعبير آخر، لأنه يريده أن يمتلئ بالمعنى الحقيقي الإيجابي للوجود، ويفهم الغاية منه، ليتحرك ويندفع للفعل والعطاء والحركة الإعمارية الإصلاحية في الأرض. بدون هذا التصور'لن تتحرك الأمة، ولن يتحرك الإنسان، ولن تفيد الآلات والأدوات والوسائل والتهديدات والإرشادات والنصائح، مهما كانت وفيرة، ومهما كانت جيدة وفعالة' [عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، .المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، ص١٩]
والقرآن الكريم يبرز مراد الله تعالى في أن يكون الإنسان على بينة من نفسه، ومعرفة صحيحة بذاته وطبيعته ورسالته؛ فقد بدأ بهذا الأمر في بدايته نزولاً وترتيباً، في دلالة جليةٍ -كما رأى البوطي- على 'أن المنطلق العلمي السليم لأي عمل يريد الإنسان أن ينهض به، هو أن يبدأ فيعرف ذاته، وخصائصه معرفة سليمة دقيقة. ذلك لأن الإنسان ليس إلا جهازاً وأداةً من أدوات ذلك العمل وإنجازه، أيا كان نوعه وأهميته. ولا بد لمن يستخدم جهازاً أو آلة ما أن يبدأ قبل كل شيء فيتعرف على ذلك الجهاز، ويتبين طبيعته وسماته وكيفية استعماله. ولا يمكن أن يستثنى من عموم هذه القاعدة الإنسان ذاته، لأنه هو الآخر جهاز بيد نفسه، يستخدم ذاته في إنجاز أخطر المهام وأشملها. لذا يصح لنا أن نقول بحق: إن مَن لم يفتتح عمله، أيًّا كان، بهذه المعرفة، لن يتمكن من إقامة أي انسجام بين طبيعته وقدراته من جانب، وطبيعة ذلك العمل من جانب آخر؛ ولذا فلن تتهيأ لديه ظروف إتقانه، ولن يملك أسباب النجاح فيه. وكلما ازداد نطاق العمل اتساعًا وأهمية، برزت أهمية هذا الشرط بشكل أتم وأوضح' [البوطي، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، ص٥٧].
- أما مَن حيث أول النزول القرآني: فقد قال تعالى:﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾ [العلق:١-٥]، إذ نلفاه سبحانه في الدلالة على ذاته وعلى وحدانيته يستعمل التعريف بذات الإنسان وأصل تكوينه، كما أنه سبحانه في مواضع قرآنية كثيرة يلفت النظر إلى الأنفس، وإلى قصة وجود الإنسان، طريقاً دالاًّ على وجود الله ووحدانيته ربوبية وألوهيةً كما في قوله:﴿فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاۤءࣲ دَافِقࣲ * یَخۡرُجُ مِنۢ بَیۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَاۤىِٕبِ﴾ (الطارق:٥-٧). [يراجع البوطي، منهج قرآني فريد، أبحاث القمة، ص٢٢-٢٤].
- ومن حيث ترتيبه: فإن الآيات الأولى من سورة البقرة التي نزلت في بدايات مرحلة بناء المجتمع الإسلامي الأول، يعرف الله تعالى الإنسان بنفسه من خلال ثلاثة أصناف من البشر، بما هي ثلاثة مناهج بشرية، وبالتالي ثلاثة أنماط سلوك وثلاثة نظم حياة، وهي: أنموذج المتقين:﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ * وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ* أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ (البقرة:٣-٥). وأنموذج الكافرين:﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ (البقرة:٦-٧). ثم أنموذج المنافقين:﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ * یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ * فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ﴾ (البقرة:٨-١٠).
ولا يخفى أن كل نمط من هذه الأنماط المذكورة إنما هو 'نموذج حي لمجموعات ضخمة من البشر. نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان ومكان، حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة .. وهذا هو الإعجاز' [قطب، في ظلال القرآن، ص٣٧].
ثم بعد قليل من هذه البداية في ترتيب القرآن، تعود سورة البقرة إلى التعريف بالإنسان، بذكر قصة الإنسان الأول آدم عليه السلام، كخليفة في الأرض، التي تمثل قصة البشرية الأولى. 'ولهذه البداءة التمهيدية أهمية تربوية كبرى؛ ذلك لأن جميع المعارف التي يكتسبها الإنسان إنما هي فرع لمعرفة سابقة، هي معرفته لذاته. وبدون أن تتوفر هذه المعرفة الأولى لا يمكن أن يحرز الإنسان أي ميزان سليم للمعارف الفرعية الأخرى' [البوطي، منهج قرآني فريد، أبحاث القمة، ص٢٢-٢٣].
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثامن
مَطبخ السياسة.. ومَنهج القُرآن في السياسة الشرعيّة..!
العين المحمودة والعين المذمومة في الكتاب والسنة - الجزء الثاني
سوريا إلى خير
أسباب تخلّف المسلمين: تحقّق وتبيين