سباق التميز في رمضان
في حوار مع الأستاذة وفاء مصطفى
إن مظاهر التمييز في رمضان كثيرة: تمييز روحاني وعبادي وخلقي واجتماعي بحيث يمكن أن يقال: إن رمضان هو شهر التمييز في حياة المسلمين.
وحول هذا الموضوع كان لنا حوار مع: الأستاذة وفاء مصطفى – من مصر (مؤلفة ومدربة تنمية الذات والتنمية البشرية).
كفاية وفاعلية في رمضان
1. "منبر الداعيات": قال صلى الله عليه وسلم: "ألا في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها"، ورمضان من المحطات الإيمانية الكبرى التي تقدم للمسلم نفحات عظيمة وفرصة لا ينبغي له تضييعها: كيف يتعرّض المسلم لنفحة رمضان؟
- أوجب الله تبارك وتعالى علينا الصوم في شهر رمضان؛ قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة:183) فرمضان فرصة عظيمة يجب أن نغتنمها لإقامة شرائع الله؛ فإذا هلّ هلاله فتحت أبواب الجنة وصفدت الشياطين؛ وفتح الله لنا بذلك سوقاً عظيماً ذو تجارة رابحة، يكتظ بالغنائم حيث تباع للصائمين سلعة الله الغالية ألا وهي الجنة، فيخسر فيه المتقاعسون؛ وليربح الرابحون برحمة، ومغفرة، وعتق من النار، وفيه ليلة خير من ألف شهر لا يدركها إلا الفائزون (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (المطففين: 26). وفيه نزل القرآن لحكمة ربانية بالغة؛ فكان الاجتهاد في تلاوته، وحفظه، وتدبر آياته، والانتفاع بعظاته، و التقاط عبراته، والتمعن في أمثاله، والتفكر في معانيه، ليفيض علينا بنفحاته، وينير قلوبنا بأنواره، وننعم بروحانية تجلياته، وللصائم فيه دعوة مستجابة عسى الله أن يقبلنا في مستقر رحمته، فلنتوجه إليه بالدعاء والتوسل والرجاء قال تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" البقرة: 186.
فيا له من شهر رائع يطل علينا بإشراقاته ويغمرنا بنفحاته حيث الخيرات الوافرة، والمعنويات العالية، والعادات الإيجابية المشرّفة؛ وموائد الرحمن التي تمد للفقراء التي تبرز التكافل في أجلّ صوره وأجمل معانيه؛ فترى المسلمين مجتمعين على موائد الإفطار جماعات، وعلى صلاة الجماعة مواظبين، وتجدين المساجد مكتظة ليل نهار بالمصلين، منشغلين بالعبادة، حتى تمنينا أن يكون العام كله رمضان، وهو فرصة عظيمة لنا فيه وقفة مع الذات، من إصلاح فساد القلب، وتطهير الصدر من الضغائن والأحقاد، وصدق الاستقامة، وسمو الروح، وضبط الجوارح، وتقوية وتجديد الإيمان، وتوطيد صلات الأرحام، والأصدقاء، والجيران، وإعادة العلاقات المكسورة، والرضا بالقضاء، وراحة البال، والإيثار، والتعاطف، وتحقيق السعادة، والعطاء بلا حدود.
وفيه نتذوق حلاوة الإيمان، والالتزام بتلاوة القرآن، والخوف من الديان، وإقامة الصلاة، والمواظبة على القيام، والكف عن الآثام، وإحسان الظن بالله، والالتزام بقوة بطاعة الله، والتخلق بأخلاق رسول الله، من المعاملة الحسنة، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والتسامح، والبدء بالتصالح بعد الخصام، وتصحيح القناعات، والعادات السلبية.
لن ندرك نفحات رمضان العظيمة إلا بتفريغ القلب، وطاعة الرب فيما يحب، إن المحب لمن يحب مطيع؛ فلا محبة دون فعل ولا إخلاص دون نية وقول وعمل؛ فلنعمل بجهد دؤوب، ولا نستعجل الثمر لأن الله يجزي به؛ كالفلاّح الماهر الذي يزرع الحبة، ويُصلح التربة وينقيها من العشب؛ ويرويها بعرقه، وكفاحه، ويظل قائماً عليها بصبر وإصرار، ومثابرة، واقتدار حتى تشق الأرض النبتة الخضراء، فتورق وتزهر، وتثمر، وتزدهر، فمن زرع حصد ومن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.
رمضان مسكوكة ذهبية وجهان لعملة واحدة الكفاءة والفاعلية
فلنستعن بالله، ولنتوكل عليه في جميع أمورنا ولنثق في قضاؤه وحوله وقوته فالله هو مصدر قوتنا، ومنبع عزتنا حتى نحقق أعلى معدلات الإنجاز وتحقيق مبدأي الكفاءة بإتباع الخطوات الصحيحة، والفاعلية بفعل العمل الصحيح وإحراز الهدف للوصول إلى التفوق والتقدم، الذي يدفعنا إلى القمة، حتى نكون في مصاف الأمم المتقدمة، والسير في المقدمة، والالتزام بالمستويات الراقية، والإنجازات العظيمة الخالدة، والمقاييس المرتفعة التي لا يحققها إلا كل ذو همة عالية وإرادة فولاذية لنلحق بركب الحضارة والتقدم، ، ومواكبة التحديات العالمية المعاصرة.
2. "منبر الداعيات": حدّد ربنا تبارك وتعالى الهدف من الصيام وهو التقوى: كيف يؤسّس الصيام لخُلُق التقوى في نفس الصائم؟ وما السبيل للحفاظ على هذا الخلق سمة يصطبغ بها طوال حياته؟
- قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (البقرة: 185)، يُبنى الصيام على تقوى الله بمراقبته سراً وعلانية امتثالاً لأوامره وخوفاً من عقابه ويتمثل ليس في امتناع الصائم عن ما نهى الله عنه في نهار رمضان من حلال مباح كشهوتي البطن والفرج، وإنما بالتركيز على الهدف الأسمى الذي خلقنا من أجله؛ فكما جاء كل رسول برسالة؛ فإن رسالتنا الكبرى هي خلافة الأرض وعمارتها والعمل عليها، فلنضع الأهداف الكبيرة والإنجازات العظيمة نصب أعيننا حتى تواءم قدراتنا، وتبرز إمكانياتنا، وتوافق مهاراتنا، وتفجر الإبداع، والابتكار، والمواهب الخلاقة، التي أودعها الله فينا، فإن العالم يقف احتراماً لمن يعرف ماذا يفعل وإلى أين هو ذاهب! وإن بالصوم يصح الجسد، ويصفو الفكر، ويرتاح البال، وتسمو الروح، ويطمئن القلب برحمة ربانية، وطمأنينة روحانية.
والسبيل للحفاظ على هذا المستوى طوال العام بالإخلاص الصادق والالتزام، والانضباط والأخذ بالأسباب والاستعانة بالله، والتوبة إليه، والعودة إلى طريقه وإتباع منهجه بالعمل الصالح، والتحسين المستمر وإجادة ثقافة العمل، والتفاني، والإتقان، والإحسان في جميع نواحي حياتنا، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
تغييرٌ دائم
3. "منبر الداعيات": رمضان فرصة للتغيير: فما مقومات التغيير التي يتيحها هذا الشهر الكريم للصائم؟ وما سر ذلك التغيير المؤقت الذي يحدث للصائم، فإذا ما فات رمضان عاد إلى سابق عهده؟
أثبتت التجارب أن الإنسان يستطيع أن يتخلص من أي عادة سلبية تؤرقه أياً كان نوعها خلال 21 يوماً، لذا فإن رمضان فرصة عظيمة للتغيير الدائم وبرمجة العقل على التميز، والإبداع، والحفاظ على إرساء التوازن في جميع جوانب حياتنا كالجانب الروحي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، حتى تستقيم الحياة،!!
والفائز هو الذي لا يرضى بالقعود ويعمل على إصلاح العيوب؛ والتصويب نحو الأهداف الكبيرة ومعرفة الأولويات، والتمسك بالقيم والمباديء التي يحث عليها ديننا، ومن مقومات التغيير الرغبة، والإرادة القوية؛ فلندرك أخطاءنا ولنعرف عيوبنا، ونقاط ضعفنا، وما النقص فينا إلا لنسعى نحو تغيير ذواتنا للأفضل ليس ترفاً أن نتغير بل ضرورة حث عليه ديننا، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد: 11، والعمل هو جوهر التغيير، نحتاج أن نحدد أين تكمن الفجوة، لنسد الخلل، قال الشاعر: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى بالمرء فخراً أن تعد معايبه؛ ومن مقومات التغيير أنه يجب أن نغير أنفسنا أولاً بإعادة النظر في القيم المراد التحلي والتمسك بها؛ بتغيير الأفكار والقناعات المغلوطة من أن رمضان شهر الخمول والكسل؛ فالتغيير يبدأ من الداخل، وهو الثابت الوحيد في الحياة؛ ؛ فلنضع إستراتيجية لحياتنا برسم أهدافنا ونفّعل خططنا لنبقى أحياء؛ وليس نصف أموات؛ فليس للحياة قيمة إذا لم نجد شيئاً عظيماً نكافح من أجله؛ فلنعمل عملاً بارزاً يفتخر به أبنائنا وأحفادنا من بعدنا ويحقق أحلامنا، وآمالنا، وطموحاتنا ولنضع بصمتنا المتميزة على العالم قبل أن نرحل عن دنيانا، لنجعل العالم مكاناً أفضل، ولنخطو بخطوات واسعة واثقة نحو مستقبل لامع وإنجاز براق يتألق كالنجوم يحدث دويّاً هائلا في سماء المجد.
يجب أن نؤصل ثقافة العمل في رمضان، فلا تواكل، ولا كسل؛ وكفانا ضياعاً لأوقاتنا، وتقصيراً في حق أنفسنا، وظلماً لقدراتنا، وهضماً لإمكاناتنا الجبارة التي وهبنا الله إياها، نحتاج أن نتغير حتى لا نُغير، ونجدد ونتجدد، فمن لا يتقدم يتقادم، ونزيل غبار الجمود عن قلوبنا لنكون أفضل، وأنضج، وأحسن، وأكمل ولنبدأ حياتنا الآن وليكن شعارنا دقّت ساعة العمل، وصدق القائل: إن مر بي يوم ولم أصطنع يدأً أو أستفد منه علماً فما ذاك من عمري.
والناس لا يرغبون في التغيير إلا إذا كان سيحقق لهم التغيير قيمة أو يجنبهم نتيجة لا يرغبونها، لذا فلنرتقي بأهدافنا، ونسمو بطموحاتنا حتى نبلغ أعلى مستوى من الارتقاء بالغايات والشفافية، وطهارة الروح وقوة الإرادة وسمو النفس، وأن لا نسوف ولا نؤجل عمل اليوم إلى الغد، والتركيز على ما يمكن تغييره الآن ليس أمس، وإنما اللحظة الآنية وليس غداً.
أن الصائم القائم يصل بعبادته إلى مستويات عالية من السمو وتحقيق الذات، ومواجهة التحديات، والقرب من الله تبارك وتعالى؛ فالروح غذاؤها عبادة الله، وذكر الله، والتقرب إلى الله للفوز برضوان الله حتى يحفظ لنا التوازن الذي يؤمن سلامة حياتنا، ورضا نفوسنا، وطمأنينة قلوبنا، قال تعالى:"فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" طه: 123. أما سر التغيير المؤقت للصائم الذي إذا فرغ شهر رمضان عاد إلى سابق عهده ربما لم يدرك الحكمة من خلقه، ولم يعي جيداً هدفه، ولم يضع خططه، ولم يصل إلى استراتيجية سليمة لحياته قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الذاريات: 56، ومن شروط قبول الطاعة حرص العبد في المداومة عليها، فمن أراد أن يثبت على ما كان عليه في رمضان فليخلص نيته لله، ويعقد عزمه، ويشحذ إرادته، ويقوي همته، ويستعن بالله ليثبته، ويجتهد بالدعاء ليعينه تيمناً برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعو بهذا الدعاء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واضعاً في حسبانه أن الفوز الحقيقي للمؤمنين الذين وصفهم الله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون من آية رقم 1-9 وفي الآيتان 11،10 بقوله: "والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" جعلنا الله منهم والمسلمين أجمعين آمين.
عوامل البناء
4. "منبر الداعيات": كيف يُسهم رمضان في البناء النفسي والارتقاء الروحي للصائم؟ وما عوامل هذا البناء؟
- يسهم رمضان في البناء النفسي والارتقاء الروحي للصائم، يدعونا الله تبارك وتعالى في رمضان إلى صناعة الحياة الطيبة التي خلقنا الله من أجل أن نعيشها، وعوامل بناء النفس يكون بالتحلية أي بوضع أساس البناء الصحيح، كتطوير الشخصية، والتنمية الذاتية، واكتساب الثقة بالنفس، وتقوية الإيمان، والارتقاء بالغايات، وضبط الجوارح، والتخلية من الأهواء، والتصويب نحو الأهداف والمسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحات، وتربية النفس على الفضائل، ومحاسبتها، ومجاهدتها، قال الشاعر: النفس كالطفل إن لم تفطمها شبت على حب الرضاع.
نحتاج أن نتغلب على ضعفنا، وكبح جماح شهواتنا، وأن نحترم أنفسنا، ولا نقبل بالدون، وأن نعلّي الهمة، وأن نعمل جاهدين حتى نرفع معاييرنا، ونكتشف قدراتنا، وخفايا قواتنا، وإمكاناتنا، لأن الله رفع قدرنا، وميزنا بالعقل، والحكمة وجعلنا خير أمة أخرجت للناس؛ فلنتطلع إلى الطموحات العالية، ولنضع استراتيجيات أهدافنا العظيمة لنحقق آمال أمتنا الغالية.
فلينس كل منا أحداث الماضي ولنفتح صفحة جديدة بيضاء؛ ولنبتعد عن أسلوب التشاؤم واليأس، والإحباط؛ وقد وعدنا الله الوعد الحق: (قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر: 53).
منبر الداعيات: بدورنا نشكر الأستاذة وفاء مصطفى، سائلات المولى تعالى أن يعيننا على أداء العبادة على الوجه الذي يُرضيه.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة