لصوص القلعة
التاريخ:
509 مشاهدة
الجوُّ ربيعيٌّ حالمٌ، كل ما فيه يُمجِّدُ الخالقَ ويعظِّمه، والطريقُ إلى القلعة ازدانت بالخضرة الممتدَّة على الجانبين، فالبساتينُ تباهت بمحاصيلها الرَّيَّانة، والأشجارُ انتعشت وشربت حتى ارتوت من مطر الشتاء، والجداول انتشرت في كلِّ ناحيةٍ وقد رُسمتْ بسمةٌ دافئةٌ على ثغرها، وهي تسقي العصافير الصغيرة التي حطَّت بعد أسفارٍ طويلةٍ، لترسم لوحةً من الجمال.
من بعيد بدت القلعة أطلالاً غافيةً على كتفِ جبلٍ شامخٍ، الخارطة أكَّدت لنا أننا نسلكُ الاتجاه الصحيح من بين طرق ومسالكَ شتَّى.
صعدنا أخيرًا إلى الجبل، وعلى الطريقِ ألقينا تحيَّةً عابرةً على متحفٍ قديمٍ، خافتِ الأنوار، مع وعد بلقاءٍ بعد ساعة تجوالٍ بين جُدران القلعة.
الصعودُ كان قاسيًا مع غموض اكتنف المكان، والمنعطفاتُ كانت قاسيةً حجبت عنَّا الحقيقة، حتى قادتنا بدهاءٍ إلى النهاية، انتهى الطريق!!
قالها وعيناه تتجوَّلان في ساحة كبيرةٍ على القمّة، تخبران عن عدم قناعته بأن هذه هي القلعة.
الساحة لم تختلف أبدًا عن ساحة أيَّة قريةٍ فقيرةٍ في الجوار، قد التفَّت حولها حوانيت صغيرةٌ عرضت أشياء متنوعةً: الجزَّار، والخُضَري، ومحل إصلاح عجلات الدَّرَّاجات، والبقَّال، وشبه مكتبة صغيرة انزوت، وأطفالٌ حُفاة انتشروا في كلِّ مكان.
بيأسٍ عقَّب: لقد وصلنا، ها هي القلعة الموعودة!! فلننزل لنكتشفَ أكثر.
لم أعقِّب، بل مشيتُ ذاهلةً، أتحاشى الوجوه الفضوليَّة التي صُوِّبتْ إليَّ وإليه من كلِّ اتِّجاه، والابتسامات الساذجة التي طَفتْ عليها، وكأنها تقول بصمتٍ: مَرْحَى، لقد وقعتم في الفخ!!
خائفةً من أن أكون قد سقطتُ في وكر عصابةٍ متمرسةٍ، ومع ذلك مشيتُ، وخُيِّل إليَّ أنني قد أختفي في مكانٍ كهذا، ولن ينجح أحدٌ في إيجادي، وقد أرهبني منظرُ مقبرةٍ صغيرةٍ للسيارات تهاوت في مكانٍ قريب، فهمستُ له: قد نُقتلُ وتفكك السيارة، ولا يدري أحدٌ بنا! لم يُطمئنني، بل قال هامسًا: كُفِّي عن خيالك البوليسي هذا.
تقدَّم منِّا رجلٌ بدا في الأربعين من عمره، رحَّب بنا بحرارةٍ، وأخبرنا بأنه سيكون دليلنا للتجوال في القلعة.
من بعيد بدت القلعة أطلالاً غافيةً على كتفِ جبلٍ شامخٍ، الخارطة أكَّدت لنا أننا نسلكُ الاتجاه الصحيح من بين طرق ومسالكَ شتَّى.
صعدنا أخيرًا إلى الجبل، وعلى الطريقِ ألقينا تحيَّةً عابرةً على متحفٍ قديمٍ، خافتِ الأنوار، مع وعد بلقاءٍ بعد ساعة تجوالٍ بين جُدران القلعة.
الصعودُ كان قاسيًا مع غموض اكتنف المكان، والمنعطفاتُ كانت قاسيةً حجبت عنَّا الحقيقة، حتى قادتنا بدهاءٍ إلى النهاية، انتهى الطريق!!
قالها وعيناه تتجوَّلان في ساحة كبيرةٍ على القمّة، تخبران عن عدم قناعته بأن هذه هي القلعة.
الساحة لم تختلف أبدًا عن ساحة أيَّة قريةٍ فقيرةٍ في الجوار، قد التفَّت حولها حوانيت صغيرةٌ عرضت أشياء متنوعةً: الجزَّار، والخُضَري، ومحل إصلاح عجلات الدَّرَّاجات، والبقَّال، وشبه مكتبة صغيرة انزوت، وأطفالٌ حُفاة انتشروا في كلِّ مكان.
بيأسٍ عقَّب: لقد وصلنا، ها هي القلعة الموعودة!! فلننزل لنكتشفَ أكثر.
لم أعقِّب، بل مشيتُ ذاهلةً، أتحاشى الوجوه الفضوليَّة التي صُوِّبتْ إليَّ وإليه من كلِّ اتِّجاه، والابتسامات الساذجة التي طَفتْ عليها، وكأنها تقول بصمتٍ: مَرْحَى، لقد وقعتم في الفخ!!
خائفةً من أن أكون قد سقطتُ في وكر عصابةٍ متمرسةٍ، ومع ذلك مشيتُ، وخُيِّل إليَّ أنني قد أختفي في مكانٍ كهذا، ولن ينجح أحدٌ في إيجادي، وقد أرهبني منظرُ مقبرةٍ صغيرةٍ للسيارات تهاوت في مكانٍ قريب، فهمستُ له: قد نُقتلُ وتفكك السيارة، ولا يدري أحدٌ بنا! لم يُطمئنني، بل قال هامسًا: كُفِّي عن خيالك البوليسي هذا.
تقدَّم منِّا رجلٌ بدا في الأربعين من عمره، رحَّب بنا بحرارةٍ، وأخبرنا بأنه سيكون دليلنا للتجوال في القلعة.
وأين القلعة؟! قلتها غاضبةً، ولربَّما عاتبة، فهي لا تشبهُ أيَّ موقعٍ للآثار زرتهُ في حياتي؛ إنها عبارة عن مجموعة من جدران حجريةٍ، يسكنها أشخاصٌ غريبو الأطوار، وقد صنع كلُّ واحدٍ منهم لبيته بابًا وسقفًا، وجعله له وكرًا أوى إليه.
لم يجبني، ولم تخفت ابتسامته، بل سارَ بنا في زقاقٍ ضيِّقٍ، وانقدنا خلفه كأسيرين مستسلمين لخبايا القدر.
بين لحظةٍ وأخرى كانت أبوابُ البيوتِ المبثوثة على طول الزقاق تُفتحُ فجأةً، وتظهر منها صاحبة الدار، ترحِّبُ بنا وتطلبُ منَّا أن نتفضَّل إلى الداخل، وكأنهن ألِفْن التجوال في بيوتهن، وبات الأمر اعتياديًّا، أن يدخل أيُّ سائحٍ لأيِّ منزلٍ يختاره؛ ليلتقط بعض الصور ويقدِّم بعض النقود ويمضي.
لكنني كنتُ أشكرهُنَّ بصوتٍ خافتٍ، وأُسْرِعُ الخُطا لعلَّ الزقاق ينتهي، ومعه ينتهي ذلك الكابوس المزعج.
وصلنا أخيرًا إلى طريقٍ مسدودٍ إلا من بابٍ خشبي يتصدَّر الجدار.
أشار الرجل مبتسمًا: هنا بيتي، وستحصلون من شرفته على أجمل لقطةٍ من أروع إطلالةٍ على الإطلاق.
تلكَّأتُ قليلاً، لكن زوجي أقدم على الدخول، وتبعتُه كطفلٍ ضائعٍ في الزِّحام لم يجد بدًّا من التشبث بيد أمه.
في الداخل ظهرت امرأةٌ عجوز، ذات وجه مرحِّبٍ صبوح، بدا أنها قد تجاوزت مائة عامٍ من عمرها، لكنها لم تحرم بهجة الابتسامة وحرارة الاحتفاء بالزُّوار.
من شرفة بيتها الهادئ القديم كانت الإطلالة حقًّا ساحرةً، والآثار البعيدة الغارقة في عشب الربيع الأخضر بدت مبهجةً؛ مما دفعنا لالتقاط بعض الصور، وكأننا عثرنا على أجمل لوحاتٍ فنيَّة ممكنةٍ.
وقبل الرحيل أخرج الرجلُ من جيبه قطعًا ونقودًا أثريةً، كما يخرجُ المرء الحلوى حين يقدِّمها لضيوفه، وعرضها علينا بأسعارٍ رمزيةٍ، قال بأنها للذكرى.
حينها أيقنتُ أنني أتجوَّلُ في وكر لصوصٍ من نوع تاريخي نادرٍ، فانتابتني غصَّةٌ، والتفتُّ عنه متعجلة الرحيل، محملةً بالخيبة، فالقلعة لم تكن قلعةً، بل قريةً مصغرةً، يقتاتُ أهلها على ما يصطادونه تحت تربتها من آثار قديمةٍ، والتاريخُ بدا مبتذلاً إلى حدٍّ بعيدٍ، وهو يعرضُ للعامة كجاريةٍ سُبيت وعُرضت في سوق نخاسة، والإنسانية لم تكن هي ذاتها، بل تلبسها شيطانُ الطمع شاركه الفقرُ محاميًا ومدافعًا.
حين تحرَّكت عجلات السيارة متجهةً عائدةً إلى أسفل، حمدتُ الله أن خرجنا سالمين، بأقل أضرار ممكنة، رغم أن القلب قد اعترته تصدعات قريبةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ من تشققات جدران القلعة، وتوجَّهنا إلى المتحف القديم الذي حوى لوحاتٍ فُسيفسائيةً قديمةً ساحرةً، امتدت على أرضه كسجادة بارعة الحسن، ورحنا نتجوَّلُ بينها ذاهلين مأخوذين بما حوته من فنٍّ وإبداع، حتى وصلنا إلى أثمنها وأكثرها قيمةً وجمالاً، فوجدناها فارغةً من المنتصف، وسألنا فإذا بالقطعة مسروقة منذُ زمنٍ، وتابعنا التجوال، لنجد أجزاءً كثيرةً من التُّحف قد نُهِبَت، وهُرِّبت إلى خارج البلاد.
فها هو تاريخ تبعثر تحت أقدام المطامع والأهواء، وعدنا أدراجنا، لنجد السماء لا تزال صافيةً، والعصافيرُ مغردة، والخضرة ضاحكة، ونحن فقط في مهرجان الربيع والحلم والجمال، نحن فقط كنا من ينتحب.
صورة أخيرة تحت عمودٍ ضخم حجري من زمن الرومان، التقطناها كذكرى وداعٍ، وقلوبنا تخفقُ خوفًا من أن نعود في المرة القادمة، ونجده قد انتقل من مكانه، أو أعدَّ جواز سفره وغادر البلاد إلى غير رجعةٍ!!
لم يجبني، ولم تخفت ابتسامته، بل سارَ بنا في زقاقٍ ضيِّقٍ، وانقدنا خلفه كأسيرين مستسلمين لخبايا القدر.
بين لحظةٍ وأخرى كانت أبوابُ البيوتِ المبثوثة على طول الزقاق تُفتحُ فجأةً، وتظهر منها صاحبة الدار، ترحِّبُ بنا وتطلبُ منَّا أن نتفضَّل إلى الداخل، وكأنهن ألِفْن التجوال في بيوتهن، وبات الأمر اعتياديًّا، أن يدخل أيُّ سائحٍ لأيِّ منزلٍ يختاره؛ ليلتقط بعض الصور ويقدِّم بعض النقود ويمضي.
لكنني كنتُ أشكرهُنَّ بصوتٍ خافتٍ، وأُسْرِعُ الخُطا لعلَّ الزقاق ينتهي، ومعه ينتهي ذلك الكابوس المزعج.
وصلنا أخيرًا إلى طريقٍ مسدودٍ إلا من بابٍ خشبي يتصدَّر الجدار.
أشار الرجل مبتسمًا: هنا بيتي، وستحصلون من شرفته على أجمل لقطةٍ من أروع إطلالةٍ على الإطلاق.
تلكَّأتُ قليلاً، لكن زوجي أقدم على الدخول، وتبعتُه كطفلٍ ضائعٍ في الزِّحام لم يجد بدًّا من التشبث بيد أمه.
في الداخل ظهرت امرأةٌ عجوز، ذات وجه مرحِّبٍ صبوح، بدا أنها قد تجاوزت مائة عامٍ من عمرها، لكنها لم تحرم بهجة الابتسامة وحرارة الاحتفاء بالزُّوار.
من شرفة بيتها الهادئ القديم كانت الإطلالة حقًّا ساحرةً، والآثار البعيدة الغارقة في عشب الربيع الأخضر بدت مبهجةً؛ مما دفعنا لالتقاط بعض الصور، وكأننا عثرنا على أجمل لوحاتٍ فنيَّة ممكنةٍ.
وقبل الرحيل أخرج الرجلُ من جيبه قطعًا ونقودًا أثريةً، كما يخرجُ المرء الحلوى حين يقدِّمها لضيوفه، وعرضها علينا بأسعارٍ رمزيةٍ، قال بأنها للذكرى.
حينها أيقنتُ أنني أتجوَّلُ في وكر لصوصٍ من نوع تاريخي نادرٍ، فانتابتني غصَّةٌ، والتفتُّ عنه متعجلة الرحيل، محملةً بالخيبة، فالقلعة لم تكن قلعةً، بل قريةً مصغرةً، يقتاتُ أهلها على ما يصطادونه تحت تربتها من آثار قديمةٍ، والتاريخُ بدا مبتذلاً إلى حدٍّ بعيدٍ، وهو يعرضُ للعامة كجاريةٍ سُبيت وعُرضت في سوق نخاسة، والإنسانية لم تكن هي ذاتها، بل تلبسها شيطانُ الطمع شاركه الفقرُ محاميًا ومدافعًا.
حين تحرَّكت عجلات السيارة متجهةً عائدةً إلى أسفل، حمدتُ الله أن خرجنا سالمين، بأقل أضرار ممكنة، رغم أن القلب قد اعترته تصدعات قريبةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ من تشققات جدران القلعة، وتوجَّهنا إلى المتحف القديم الذي حوى لوحاتٍ فُسيفسائيةً قديمةً ساحرةً، امتدت على أرضه كسجادة بارعة الحسن، ورحنا نتجوَّلُ بينها ذاهلين مأخوذين بما حوته من فنٍّ وإبداع، حتى وصلنا إلى أثمنها وأكثرها قيمةً وجمالاً، فوجدناها فارغةً من المنتصف، وسألنا فإذا بالقطعة مسروقة منذُ زمنٍ، وتابعنا التجوال، لنجد أجزاءً كثيرةً من التُّحف قد نُهِبَت، وهُرِّبت إلى خارج البلاد.
فها هو تاريخ تبعثر تحت أقدام المطامع والأهواء، وعدنا أدراجنا، لنجد السماء لا تزال صافيةً، والعصافيرُ مغردة، والخضرة ضاحكة، ونحن فقط في مهرجان الربيع والحلم والجمال، نحن فقط كنا من ينتحب.
صورة أخيرة تحت عمودٍ ضخم حجري من زمن الرومان، التقطناها كذكرى وداعٍ، وقلوبنا تخفقُ خوفًا من أن نعود في المرة القادمة، ونجده قد انتقل من مكانه، أو أعدَّ جواز سفره وغادر البلاد إلى غير رجعةٍ!!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة