الحب وآثاره التربوية
أشبِعيه حنانًا وحبًّا وعطفًا، وأَشعِريهِ بالأمان:
رغم كل ما نُقدِّمه لأولادنا من تضحيات فإنهم لا يَشعُرونَ بحبِّنا، والمشاعِر التي تَنتابُهم - مثل: الغيرة والفشل والإحباط... - هي فقط التي تَصِلهم وتؤثِّر سلبًا على تفكيرهم، وتُبعِدهم عنَّا، ولا يُدرِك كل واحد منهم رسائل الحب إلا حين تُقال صراحةً وبقوةٍ ووضوح، فلنقلْها إذًا!
قولي لكل طفل على حِدَة: "أنا أحبك يا بُنيَّ".
قوليها بقوة وصدق ووضوح، وأَكثِري من قولها، هكذا وبلا مُناسَبة وبلا شروط، انظري إلى ابنكِ بحَنانٍ، قولي له: "أُحبُّك"، "أنا سعيدة لأنَّك ابني"، "أنت غالٍ على قلبي".
يجب - وأقول يجب وينبغي ويُفترض - أن يَشعُرَ طفلكِ بحبِّك، وإذا لم يتلقَّ الصغيرُ حبًّا كافيًا في طفولته لن يتعلَّم كيف يُحب الآخرين، ويتمركز حول ذاته وتُسيطِر عليه الأنانية، والمُشكلة أن الحب والعداء يتصارَعان داخل النفسِ، والناس تعوَّدت ألا تعبِّر عن الحب، وتعبِّر عن الضيق وحده، فالأم لا تقول لابنها حين تكون راضية عنه: "أحبك"، وإنما تقول له حين تغضب منه: "لن أحبك"، أو "لم أعُدْ أحبك"، وحين ترضى عنه لا تنفي ما سبق وقالته من عدم محبَّتِها له، فينشأ الصغير ومشاعِرُ البُغضِ تَقتُل مشاعر الحب في قلبه.
فهل تعلمين أكثر التصرُّفات السيئة (وقاحة، أنانية، تمرد، عدوانية) رد فعل، وسببُها عدم الشعور بالحب؟ وهل تعلمين أن أكثر المُجرِمين والمستبدِّين في العالم حُرِموا العواطف والمحبة في صغرهم فنشؤوا قساةً غير أسوياء؟
الحب عنصر مُهمٌّ جدًّا في العملية التربوية، والطفل المحبوب ينمو نفسيًّا بشكل سليم، ولا يَحتاج لتعويض حاجته للحب بعدم الأمانة وعدم التسامُح وعدم التبصُّر، والفرد المُشبَع عاطفيًّا يستطيع الصمود أمام المِحَن، والدفاع عن الفضيلة، والثبات في مواجَهة الفساد، وعدم اختِلال ميزان العدل لدَيه.
وإن حبكِ لابنِكِ يُقلِّده بالفضائل، ويجعله يتقبل النصح ويَسير بسلاسة على توجيهاتك.
كيف تُشعرينه بحبك؟
• الطفل يُولَد ودودًا مُحبًّا، ويَحتاج لمن يتجاوب معه، فيهشُّ لرؤيته ويبشُّ له، ويولي أمه حصةً جيدة من الولاء؛ وفاءً لها على رعايتها له، فبادِليه الحبَّ والودَّ، واستمتعي برفقته، فهو ظريف وسوف تَسرُّكِ صحبتُه، ويُضحِكك منطقُه!
• المدح والثناء يُساهِمان في زرع الحب، خاصةً المدح الصادق، كما مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فمدَحَ صوتَ بلال بالأذان، وامتدَح كرم الصدِّيق، وشخصية الفاروق، ولا ضير بأن تُلقِّبي ابنك بشيء بارز فيه على سبيل المدح، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - فلقَّب أصحابه بصفات جميلة: "حبر الأمة، ذو النورين، سيف الله المسلول...".
• عبِّري عن عواطفك تجاه طفلك، أعطيه حبًّا وأشبِعيه حنانًا بلا ميوعةٍ ودلال وإفساد تربية، كلما دخلت عليه الغرفة - أو دخل هو عليكِ - ربِّتي على رأسه، أو مرِّري يدكِ على ظهره بلطفٍ، اسأليه عن حاله بلهفة كما تسألين أمك وأختك وجارتك بقولك: "كيف حالك اليوم؟ كيف تقضي النهار؟ هل تحتاج شيئًا؟"، "متى ستجوع لنأكل معًا؟"، هذا الصنيع ينمِّي الود بينك وبينه ويقوي الصلات.
وساعة النوم مسِّي عليه، وتمني له ليلة هانئة، ودعيه لينام بهدوء، وحين يَستيقِظ ابتسمي له وصبِّحي عليه، قولي له مِن قلبك: "اشتقت إليك"، والحق - وأشهد أنه الحق - الأم تشتاق لأولادها حين ينامُون، فإن أفاقوا ذهب الشوق وحل مكانه السخط من صخبِهم وكثرة طلباتهم!
واسأليه: "هل ارتاح في النوم؟ وماذا رأى في منامه؟"؛ فالأحلام تَكشِف مخاوف وأسرار النفس البشرية، وعن طريقها يُمكِنك معرفة الكثير عن خبايا طفلك ومعاناته العاطفية، أما كيف تُشعِرين صغيرك الذي كبر ودخل المدرسة بحبِّك؟ فإن لذلك طريقًا مشابهًا، وإليك الاقتراح - الذي نفَّذتُه أنا ونجح -:
لا بدَّ أن يَنال الصغير قسطًا كافيًا من النوم ليصبح بمزاج جيد وبأخلاق حلوة، فاعتني بنومه، وأيقظيه صباحًا أنت بنفسك بهدوء وحنان، واصبِري عليه، وقدِّري نعاسه وتنغيص نومه وتكدر باله، كُوني لطيفة في اختيار ألفاظك، وفي الطريقة التي تَلمسينه بها، وحاوِلي أن تستعملي - كل يوم - طريقةً في إيقاظه - على صوت المنبِّه، وأخرى بهزِّه، وثالثة بمسح وجهه بيد رطبة - واستعملي كل يوم عبارةً لكيلا يرتبط بكلمات معينة أو طريقة محدَّدة، فتُسبِّب له تلك الكلمات أو الحركات الضيق والنفور.
ولا بأس أن تُعربي عن أسفك لقطع نومه، لكن الذهاب إلى المدرسة نشاط ضروري، وعند الصباح يتأخَّر الأولاد بالصحو، ويَتباطؤون بالاستعداد، فترينه يترنَّح وهو ذاهب إلى الحمام، ويخرج منه متثاقلاً، فلا ضير هنا إن ساعدتِه بلبس قميصه أو تزرير زره، وإذا تجهَّز الولد ولبس كل ملابسه وشرب حليبه وبقي معكما وقت، حادِثيه ليَصحو عقله، ولتعطيه الدعم والثقة، وحين يذهب إلى المدرسة ودِّعيه على الباب، وقبِّليه وابتَسمي له، ولوِّحي بيدِكِ، وتمنَّيْ له يومًا طيبًا جميلاً، فإذا انصرَف ادعي له واقرئي المُعوِّذات لتحفظه، والله خيرٌ حافظًا.
وعندما يحين وقت عودته إلى البيت - من المدرسة أو من مكان - انتظريه كضيف عزيز، وكوني مستعدة لاستقباله، وافتحي له الباب بنفسِك، ورحِّبي به كأحسن ما يكون الترحيب وكأنك لم تريه منذ مدة طويلة، فقولي له: "أهلاً وسهلاً، تفضَّل"، وصافِحيه وقبِّليه، وبعد أن يدخل قولي له: "اشتقت إليك وافتقدتك في غيبتك"، ولا ضير بأن تمزحي معه مرة فتقولي إن البيت كان هادئًا بسبب غيابه، وبقي مرتبًا ونظيفًا!
وتناوُل طعام الغداء فرصة طيبة لجمع شمل العائلة وتبادُل الأحاديث، ومن خلالها تتبين الأم كيف كان يوم ولدِها، وما هي المشكلات التي تعرَّض لها، وما هي الأشياء الجميلة التي تمتَّع بها، وهذا مهمٌّ جدًّا جدًّا لتربية علاقة حب سليمة، فاستمعي لابنك بكل حواسك، وراقبيه واقرئي مشاعره وأفكاره، ودوِّني انطباعات ذلك اليوم على نفسيته.
اسأليه عن أحواله؟ وماذا حدث معه؟ وما أزعجه في يومه وما أفرحه؟ وانتظري جوابه، ودعي له فرصةً ليتكلم على راحته، انظري في عينيه وتفاعَلي مع حديثه، واهتمِّي بما مرَّ به من حوادث، وأَظهِري حزنك لما أساءه، وفرحكِ لما أفرحه، واسعَدي لنجاحه، وابتسمي للنكت التي يلقيها، ولا يمنع هذا من توجيهه أو الاعتراض على سلوكه إن وجدتِ ما يستحِقُّ التنبيه، فهذا لا يُنافي المحبة، بل هو منها، فانصحي خلال ذلك وقوِّمي ولا تَخشَيْ شيئًا.
وأثناء النهار تفقَّديه كل ساعة، وانظري ماذا يعمل، اجلِسي معه قليلاً حيث كان، وقدِّمي له قطعةَ فاكهة أو شيئًا لطيفًا، أو ألقي نكتة أو فاجِئيه بهدية، وإذا دخلتِ غرفته - وكان مُنهمِكًا في شؤونه - ألقي نظرةً عليه، وامسحي على رأسه، وربِّتي على ظهرِه، فإن تفاعَل معك شارِكيه ما يعمله واسمَعي شرحًا لما يقوم به.
وقبل النوم اجلسي معه قليلاً في غرفته وعلى سريره، وإن كان طفلكِ خفيف الوزن أجلسيه على ركبتَيكِ، وحدثيه برقة وود، ثم مازحيه أو احكي له حكاية ما قبل النوم، أو رتِّبي معه برنامج الغد أو خطِّطا كيف ستَقضيان عطلة نهاية الأسبوع.
على أن الطفل يَلهو ويَنشغِل في لعبه ويَنسجِم في أوقات كثيرة، أو يكون في غاية النعس والتعب، ولا يكون مُستعدًّا لتلقي رسائل الحب، ولو حاولتِ إيصالها إليه لأعطَت مفعولاً عكسيًّا، فابتعدي عنه حين يكون كذلك، وانتظري الوقت المناسب للتواصُل معه.
وفي كل يوم استَفسِري عما يعمله وما يشغله، عيشي قليلاً في عالَمِه الصغير، أثني على إنجازاته، امتدِحي سلوكه الحسن، وشجِّعيه، وقد ترَين منه إقبالاً عليك أو إدبارًا، فاقبَلي بمقدار تجاوُبِه ولا تُلحِّي عليه، وحين ترينه مشغولاً أو منهمِكًا في أمر - وأنت في سعة من الوقت - احترمي خصوصيته ودعيه، وانتظري فرصة أحسن؛ إذ - وللأسف - نحن تحت رحمة أولادِنا، ولا خيار لنا حين يَحتاجوننا؛ فإذا فرَّغْنا أنفسنا لهم في الوقت غير المناسب لن يُفيدهم ذلك شيئًا، بل قد يشعُرون بالضيق!
أمَّا إن جاءكِ يسعى إلى اهتمامك وعطفك، أو طالبًا رأيك ومساعدتك، فدعي كل شيء - مهما كنتِ مشغولة - والتفِتي إليه، فأنت لست بالخيار حين يأتيك راغبًا، وعليك الاهتمام به وإجابة طلبه، يجب أن يَجدك حين يحتاجك، ويشعر بحبِّك واهتمامك ووقوفك إلى جانبه، إلا تفعلي انصرفَ ابنُكِ عنكِ، وفاتَتْكِ فرصة ذهبية لتنمية الود والثقة بينكما، ولو تكرَّر ذلك منك لأثَّر على مشاعر الحب، ولخسرتِ جزءًا مهمًّا جدًّا من علاقتك بطفلك.
وحين يأتيكِ مبادرًا بالكلام - بلا سؤال منك، ولا استِشراف - استمعي له وافهمي ما يقول، وإذا كنتِ مُنشغِلة الفكر أو منهمكة في عمل ما، فلا تؤجِّلي ابنك لحين فراغك، فعندها سيذهب وسيفقد الرغبة بالكلام، وقد يَنهمِكُ في لعبه، ولن يُثريك بالقول كما لو بدأ الكلام أول مرة، ففي الأولى سيكون متدفِّقًا منطلقًا؛ لأنه تكلم من تلقاء نفسه، وبرغبة، وعن سابق تصميم، وسيَصدُقك القول، ويشرح لك، ويُسهِب بالتفاصيل، ولو أجَّلتِه إلى حين، فلربما عدَل عن الكلام أو نسي بعضه، دعيه يتكلم حين يريد الكلام، والأم بفطنتها تشعر بكلام ولدِها إن كان مهمًّا أو لغوًا، فإن كانت الأولى لا تستعجليه، ودعيه يسترخي في الشرح، وأصغي لكل كلمة، وأرعيه سمعَكِ وبصركِ، واستفسري منه (ليتعزز عنده اهتمامك)، وأظهري سرورك بكلامه ومتعتك برفقتِه.
وباختِصار لا تُهمِلي ابنك فيبتعد وينطوي على نفسه، كوني معه في آلامه وآماله (بحبِّك ونصحِك)؛ ليشعر أن له ظهرًا يسنده ويمده بالقوة، فيستقر ويَنصرِف عن الحركات الطفولية الصبيانية، ويلتفت إلى الاستفادة من مهاراته وتطوير شخصيته، ليكون رجلاً قديرًا.
• وإذا ضايقك ووبَّختِه واعتذر منك، كرِّري بعدها - وعلى مسامعه - أنك بالنتيجة تُحبِّينه - هو شخصيًّا - كيفما كان سلوكه، ولا تستبدلي به أي ولد آخَر، وما يُهمُّك هو صلاحه.
• وإذا مرض زيدي عطفك قليلاً، وارعَيْهِ أكثر ريثما يشفى، وإذا كان مرضه مزمنًا عامِليه وكأنه شخص أقرب إلى العادي؛ لكيلا يَشعُر بالنقص، وليتقوى على مجابَهة الدنيا.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن