ضباب
بيديها المرتجفتين فتحتْ نافذةَ غرفتها، التي أصدرتْ أزيزًا يدلُّ على أن مرض الشيخوخة قد أصاب نافذتَها أيضًا، ونظرتْ بعينيها الغائرتين إلى أزقة الأحبة وحاراتها، فتناهى إلى سمعها الضعيف صوتُ بكاء واستغاثة، يا إلهي، إنه صوت العروس "ليالي"، لماذا تسمع هذه الاستغاثات يوميًّا منذ فترة ليست ببعيدة؟ تتخللها شتائمُ، وهمهماتٌ، وآهات، وعلى الرغم من سمعها الكليل، فقد استطاعت تمييز بعض الكلمات:
اغربي عن وجهي، اذهبي إلى الجحيم، أيتها الساقطة.
• أنا، أنا! ماذا فعلت؟!
• اخرسي أيتها الـ... لعنة الله على...
ارتجفتْ أطراف العجوز؛ شفقةً ورثاء لحال تلك العروس "ليالي".
فاحتارت كيف تدخل إلى قلب تلك العروس؛ لمعرفة جراحاتها، إن نظرات ليالي الشاردة، ووجهها البائس، وقواها الخائرة - جعلتْها عجوزًا وهي في ريعان شبابها، ولم تستطع ابتساماتها الباهتة محوَ ولو جزءًا يسيرًا من معاناتها، فقامت متثاقلة الخُطى ورحَّبت بالحاجة صفية ضيفة ذاك الصباح، كانت تهرب من نظرات الحاجة الذكية، وتساؤلاتها المهذبة؛ لكنها لم تستطع تكذيب سمع الحاجة.
• أجل، إنه يشتمني ويضربني ويهزأ بي ليلاً ونهارًا.
• ألستما عروسين؟
• لم يمض على زواجنا شهران!
• ولكن أين فرحة العروسين وبهجتهما؟ أم أن أحدًا اضطركما لهذا الزواج؟ نكَّست ليالي رأسها وقالت:
لا، إنه محض اختيارنا.
• ولِمَ يتطاول عليك لهذه الدرجة؟ وأين أهلك منه؟
سافرتْ عينا ليالي إلى البعيد، وأخذت تحدِّث نفسها، لقد تخيلتُ أنا و"سيد" الجنة، فطارتْ إليها أحلامنا، كنا نعتقد أن زواجنا سيحمل أرواحَنا إلى الجنة، وإن كانت أجسادنا تعيش على هذه البسيطة المعقدة، ولم نمكث في جنتنا طويلاً، ربما سويعات أو لحظات، ثم بدأتْ رحلة العودة، ألا ليتنا اكتفينا بالعودة إلى مواقعنا! لكننا تدحرجنا أشواطًا تحت الصفر بكثير، خاصة بعد تلك الليلة، وانسكبت الدموع من عينيها، وانطلقتْ آهات من حنجرتها وكأن أحدًا لم يكن قبالتها، إنها تتخيل سيدًا وهو ينظر إليها محدقًا ومتأملاً، ثم يصدر تعليقاتٍ ساخرةً.
• أوَتكونُ حياتنا معًا فيلمًا هنديًّا أم حقيقة واقعة؟ إيه يا ليالي العمر، كم أنت جميلة وغبية!
• أجل، أنا غبية، هات أوراقًا لأكتب لك اعترافاتي، لكن ذلك لا يمنعنا من التفاهم يا سيد.
كان سيد يشيح بوجهه عني، مبديًا تقزُّزَ مَن يشم رائحة منتنة، حاولت أن أمسك بيده قائلة:
أرجوك يا سيد، أتوسل إليك، أخبرني ما هي جريمتي؟ ولماذا تعاملني هكذا يا سيدي العروس العصري جدًّا، أين كلماتك الحلوة، وعباراتك الرقيقة، وهداياك الجميلة؟! أين ابتساماتك الأخاذة؟! أين وأين؟!
وكأني أسمع صوته مجيبًا:
لقد انتهى كل شيء منذ تلك اللحظة!
تقع الكلمات عليَّ جارحة مؤلمة.. وأتساءل:
ماذا؟ وهل دفنت جمال الحياة لأني بحثت عنه؟! وهل وأدت أحلامي؛ لأنني جريت خلفها؟! إن كنت تعتقد بأنك تشاهد فيلمًا هنديًّا، فأنا أجزم بأني أعيش في بحر مأساوي.
مسحتْ ليالي دموعَها التي تجري على استحياء، وزفرت قائلة:
مأساة، مأساة.
ابتسمت الحاجة صفية، وربتت على كتف ليالي، وقالت مواسية:
كثير من الشباب يا ابنتي يعيشون بداية حياتهم الزوجية في شقاء ونكد، ثم ينتهي سوء التفاهم مع طول العشرة، وحسن الألفة، إن عدم معرفة الطرفين لبعضهما البعض تجرُّ عليهما مشكلات كثيرة، اصبري يا صغيرتي، فبداية الحياة الزوجية عذاب دائمًا؛ فالعروس تكون في الغالب جاهلة، فتعلِّمها الأيام.
أطرقت ليالي رأسها وقالت لنفسها:
كنت تعانين من مشاكل بسبب عدم المعرفة، أما أنا فمشكلتي نشأت وبدأت، ولن تنتهي؛ بسبب معرفته قبل الزواج، وكنت تبكين لقلة معلوماتك، أما أنا فأبكي دمًا ودمعًا وعلقمًا لكثرة معلوماتي، وكيف أكون جاهلة وقد قرأت مئات من قصص الغرام وغيرها؟! وكيف أكون جاهلة وقد جلست مئات الساعات أمام الشاشة الصغيرة؟!
لا، بل أنا جاهلة، جاهلة بحقيقة الأمور، أظهر بثوب مثقفة ثقافة عصرية.
علَّمتْني أيامي القليلة مع سيد أنني تعلمتُ أفانين الجهل، وأسباب الفشل، تجاهلتُ كل المبادئ والقيم باحثةً عن حريتي في شكلي وملبسي وموقعي، وفي اختيار شريك حياتي، كنت أطير فرحًا كلما حطمتُ مبدأً وسحقتُه تحت قدمي! وأصبح دماغي مسرحًا لصراع مبادئ، أريد أن أتحرر وكفى، أنا أكره القيود، أرفض التقاليد، أرفع صوتي عندما يسأل عني والدي أو والدتي؛ فأنا فتاة مستقيمة تعرف مصلحة نفسها، ولو بدتْ في ملابس أنيقة جميلة خارجة عن التقاليد البالية، وإني لأفهم وأعي جيدًا مصلحتي في المستقبل البعيد، بعيدًا عن العرف والتقاليد، أنا أفهم مصلحتي، وتهمني علاماتي المدرسية وشهاداتي، حتى لو اضطرتني نتائجي لأخْذ قسط من الراحة بين مرحلة دراسية وأخرى!
كنت أرتقي سلم الحرية هابطةً في درجات النجاح، سعيدةً بما أفعل وأحقِّق من قدرة على التحدي، وكانت القمة - قمة التحدي - يوم أن قررت الاقتران "بسيد"، أذكر موقف أمي:
سيد؟! ما علمه؟ ما عمله؟ ما ثروته؟ فأجيبها:
بالصبر والكفاح يأتينا كل شيء.
• هذه أحلام يا ليالي، لا بد أن يكون قد بدأ مشوار النجاح، خطوات لها مستقبل، سيد ما زال على رصيف الحياة.
• لكنه يحبني، وأنا...
• اسمعي يا بنت، الحب وحده لا يكفي، الحب يتلاشي ويسحق تحت وطأة فشله العملي، اسمعي يا ليالي، أنا وأبوك نرفض هذا الزواج بشدة.
بكيت يومها؛ لكني قررت أن أتحدى، وسوف أنتصر، فسافرت معه بعد أن تركتُ رسالة قصيرة لوالدي، وبذا فقد أسَرْتُ نفسي أسرًا أبديًّا؛ لأني... في قمة الحرية!
الندم يأكلني، والألم يخنقني، سيد الذي ظننتُه جنتي، أصبح ناري، فأنا في الحقيقة لست زوجتَه؛ فقد أصبحت في عدة المطلقة!
خلال حديث ليالي، كانت يد الحاجة صفية تربت على كتفها، وتحاول حل ألغاز كلماتها، خاصة العبارة الأخيرة، فسألت مندهشة:
أأنت مطلقة؟!
• أجل، بالأمس كنت حرة، واليوم أصبحت مطلقة!
• ولكن لماذا؟ ماذا حدث أخبريني؟
قامت ليالي لتحدث نفسها بحرية، وقالت:
وهل يمكن أن أنسى ما حدث تلك الليلة؟ فقد خرج سيد من بيتنا وهو يكاد يطير فرحًا؛ لأنه علم أنني حامل، وقال: إنه سيذهب لمقابلة مهمة ثم يعود إليَّ.
عاد من مقابلته مسرعًا، متجهم الوجه، عبوسًا، معرضًا عني، حاولت التحدث إليه، فقال بانفعال شديد:
أنتِ، أنت طالق طالق!
خارت قواي، وافترشتُ الأرض باكية، وتوسلت إليه، أريد معرفة السبب.
فأخرج من جيبه بطاقة وقال مستهزئًا: شاعرة يا سلام! تزوجتُ أديبة مفوهة! وقرأ بصوت عالٍ:
حبُّنا كالضباب، إذا أشرقت عليه الشمس تلاشى وغاب، التوقيع ليالي.
تمالكت نفسي وعلقت قائلة:
أمن أجل هذا الكلام؟ هذا كلام قديم أيام المراهقة، ثم إنك يا حياتي إنسان عصري، لا تهمه هذه التفاهات!
توسعت حدقتا سيد وقال غاضبًا:
اسمعي، عصري أم حجري أم صخري، كل ذلك يتساوى أمام هذه اللقطات، وأخرج صورة لي كانت مع أحد الشباب، فأسقطها في يدي! وبعدها أخذ يناديني بالساقطة، وهمهمت: "ساقطة"! أنا ساقطة؟!
فعلقت الحاجة صفية:
والله يا ابنتي، أسمع منك جملاً مبهمة، وكلمات متقاطعة، ولا أدري كيف أساعدك؛ غير أني لا أجد تفسيرًا لهذا العذاب الذي تعيشينه، فربنا قال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19].
أجابت ليالي:
أطمئنك يا حاجة، لقد قررنا أن نعيش معًا، لكنه ينظر إليَّ بشكٍّ قاتل دائمًا، ويعاملني كمن يعامل خادمة سارقة مخادعة، فعلَّقت الحاجة صفية:
ربما تكونين قد اقتربت من شيء خطير يا ابنتي، ودفعت له ثمنًا باهظًا غير مسترد، دفعت "كرامتك"، فسلمتِه مفاتيح الشك والريبة! إن الأسرة لا تستطيع العيش دون الثقة والاحترام المتبادل يا ابنتي، وصدق الله العظيم حين قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32].
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن