أمام بوابة الجامعة...!
كانت الشمس تشارف على المغيب عندما هبّت رياح الخريف تبعثر أوراق الأشجار في الطرقات الناحبة، مودعة تلكم الأيام الخضراء، تاركة الأفنان تتلوى وحيدة وتتأهب لاستقبال أيام الشتاء القادمة بأحمال وأثقال...
في هذه الأثناء كان شابٌّ يمرّ في ربيع عمره، غير أنك ترى ملامح الخريف وقد تركت على وجهه بصمتها كما تفعل بربيع الحياة...
متثاقل الخطى.. يمشي وفي قلبه تلفُّت إلى زمن غابر.. تعتلج في نفسه خواطر الماضي العابر تبحث بين طياته عن الحلم الذي ضاع من بين يديه...
كان يباطئ الزمن في العودة إلى بيته بعد عناء يوم طويل من العمل الذي زجت به ظروف الحياة ولوّت عنق طموحه وحوّلته من حال إلى حال...
تلك الأحداث التي غيرت طريقه وبدّلت مسلكه... ما أقساها على نفسه وما أشد وطأتها! ولكنها كانت أقوى من أن يعاندها أو يرفض وقوعها..
وبينما الحيرة تتجاذبه، وتتبعثر في ذاكرته الملفات وتنقله من فكرة إلى فكرة ومن حدث إلى حدث، إذ به يتنبه أنه لم يسلك طريق المنزل!... إنه هنا أمام بوابة الجامعة!
ما الذي ساقه إلى هذا المكان الذي لم يكمل فيه الحلم الذي رسمه لمستقبله؟! ما الذي حمل روحه إلى هذا المكان الذي كان يطمح في أن يكون أحد رواده وأفراده؟!
وقف مذهولًا يتأمل المكان بعين الشوق والحنين! ونقل بصره بين جدرانها وساحاتها... نعم إنها هي هي... الجدران هي هي.. الساحات هي هي... كل شيء كما هو... لم يتغير ولم يتبدل!
لكني أشعر أن هناك شيئًا ما تغير! لا شك في ذلك! كان يتساءل في نفسه... نعم، ما هو؟؟!
وتراءى له من خلف تلك الجدران الصامتة وميض ذلك الشاب المزهو بشبابه، المفتون بعنفوان قوته واخضرار ربوع أيامه، وقد تفتح الأقحوان في ساعاته ينثر أريجه ليعبق أينما حلّ وكيفما اتجه، فيتحلّق حوله الفتية والفتيات يطمعون بقطرات من الترف المنغمس فيه ومن هذه النعم المسدِلة عليه من ألوانها البراقة التي تسحر العقول والألباب...
كم كان يعجبه أن يكون صنمًا تجثو حوله نفوس الرفاق تستجدي منه غيثًا فيستعلي عليها ويرمقها بجمود الكبر والغرور، وفي نفسه أن الخلود لما يملكه، وأن ما يهنأ به لن تمرّ عليه نائبة من الزمان فتهلكه وترديه في غياهب النسيان.. أو تحوله إلى غير ما تشتهي نفسه التي أغواها وأغوته، واستأمرها على حياته فتربعت على عرش الكبر تتبختر بخيلاء لا يردها إيمان ولا يردعها نصح...
فأين أيامه اليوم مما كان فيه بالأمس؟! أين هو من أحلامه؟! هل ما زال هو هو؟!
ومن أعماق نفسه سمع نداء: لماذا لا أستطيع أن أعود أدراجي في طريق زماني كما أفعل في طريق الأرض؟! لماذا لا أستطيع أن أقف في اللحظة التي أريدها؟! تلك اللحظة السعيدة من عمري كما يقف العابر في البقعة الزاهية التي أعجبته؟!
لأنها العناية الربانية... فليس كل ما ترغبين به يا نفس هو الخير الذي ترومين! لقد علم الله وجهلتِ! وتماديتِ وما قنعتِ، فكان الأمر من الله أن تعودي!
فمهما حاولتَ وحاولتَ وحاولتَ لن يكون إلا ما قدر الله أن يكون؛ فما مضى من العمر بقدَر الله، وما هو آتٍ بقدر الله! فكيفما تلفّتّ وكيفما اتجهت فأنت تسير بقدر الله!
إنها العناية الربانية لهذا القلب الذي كاد يهلك في أوحال الرزايا وأقذار النفوس المريضة... فاستنقذته منها خسارة والده في تجارته؛ فلم يعد هذا الأخير قادرًا على تمويل هذه المفسدة، ليسوقه ظرفه الطارئ من الحلم الوردي إلى العمل اليدوي، ليصبح عاملًا في مكتب والده يحاول إنقاذ ما بقي منه...
لقد أدرك الآن ما الذي تغير... وعرف السرّ في هذا الشعور الذي انتابه... إنه هو!
فكم تغيّرت حاله، وتبدّلت..
كم عانى يوم سمع ذلك الخبر المشؤوم كالبوم ينعق في ظلمات الليل فيحيل السكون إلى رعب مما هو آتٍ، يومها ظن أن الدنيا قد أغلقت في وجهه أبوابها وأن حياته لم يعد لها معنى وأن الموت هو السبيل إلى الخلاص من هذا الكابوس الذي يعيشه!
كيف سيواجه رفاقه؟! ماذا سيقول لهم؟! هل سيخبرهم بما حدث معه؟! وماذا سيقولون له؟! في نفسه كانت تتصارع الأسئلة وتتقاذفه هموم ما يخبئه له المستقبل! وهو لا يرى من ذلك كله إلا الموت الزؤام!
يومها دخلت عليه والدته وكأنها البدر، فأحالت ظلمة أفكاره إلى نور ويقين بالله. يومها فقط استمع قلبه لنداء السكينة والطمأنينة، يومها احتوته ساعة بدء تحول نفسه من اليأس إلى الأمل ومن السخط إلى الرضا، ومن طريق الضلال إلى طريق الهدى!
وها هو اليوم ينظر إلى الدنيا بنفس توّاقة إلى حبٍّ غير ذلك الحبّ العابث، ويتجمّع حوله الأصحاب أخوَّة لا طمعًا، ويسجد لله فلم يعد صنمًا...
وبينما هو مستغرق في صور من ماضيه إذ بيدٍ تهزُّ كتفه ليستفيق على صوت حارس الجامعة مخاطبًا إياه: «بني، عُدْ في الغد فقد انتهى الدوام الجامعي اليوم...!» فتبسّم له الشاب قائلًا: «شكرًا يا عم... فليس هذا ما أريده في القريب العاجل... قد أعود يومًا ولكني لن أعود كما كنت».
وترك الحارس مشدوهًا لم يفهم من الأمر شيئًا... ومشى وهو ينكر في نفسه ذلك الجاهل القابع هناك خلف تلك الجدران..
واستدار نحو منزله متلهفًا لعناق والدته مرددًا: «لقد ضللت الطريق يومًا وأضعت حلمًا، ولكني لن آتيه بعد اليوم..
فقد أدركت سبيل الرشاد... فحمدًا لله.. حمدًا لله»
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن