رومانسيّة .. أم أحلام مَنْسِيّة؟
عندما تكون الفتاة في مقتبل عمرها تكثر أحلامها، ويَسبح خيالها للقاء فارس المستقبل، وتنسج في مخيلتها مواصفات معينة له. ولا شك أن أحلام كل الفتيات تلتقي في أنهن يُرِدْنَ زوجاً رومانسياً؛ فالواحدة منهن تحب أن ينقش اسمها على جذع شجرة، أو يهديها وردة جورية صباح كل يوم، ولا ينساها في أشعاره وإن لم يكن شاعراً.
ويفهم الرجل هذا الحلم، فإذا به في فترة الخطوبة يكون قمة في الرومانسية، وأفعاله جذابة إلى أقصى الحدود، ثم بعد الزواج تُرْفَع كل الحدود وتظهر التصرفات دون قيود. ويبدأ الوجه الحقيقي بالظهور، ويأبى بعض الرجال أن يطلق عليهم لقب «رومانسي» لأنهم يعتبرون ذلك ضعفاً وانكساراً. والبعض يُقَنِّنها بتصرفات خارجية تدل على الرقة والدفء.
ولكن في عمق الحياة الزوجية يصبح للرومانسية معنىً آخر؛ فهي لا تقتصر على كلمات الحب والشموع في ليلة دافئة، أو ورود مع أبياتٍ من الشعر.
وهي أيضاً ليست فيلماً يشاهده الزوجان في ليلة ممطرة أمام المدفأة. كما أنها ليست حكراً على العاشقين أو المُقْدِمين على الزواج (كما يصوِّرها المجتمع).
بعد الزواج يصبح لهذا المفهوم بُعدٌ آخر، ذاك البُعد الذي تفتقده العلاقات الزوجية في أيامنا هذه. فالرومانسية بمفهومها الصحيح هي مشاعر وأحاسيس بين الزوجين تُولِّد القدرة على التفهم والاحتواء والانصهار والامتزاج مع الحياة الزوجية والأسرية ببساطة وصدق وعفوية.
وهذا ما تشكو من فقدانه المرأة المعاصرة، بل وتبحث عنه في ظل طغيان المادة والمفهوم السطحي للرومانسية. ولا شك أن هذا الجزء من الأفعال الخارجية لا ينبغي أن يغفل عنه الزوجان؛ فيجب بين الحين والآخر أن يتبادلا الكلمات الرقيقة والورود، ويستشعرا الدفء والأمان داخل البيت، في إطار الحياة الزوجية لا خارجها.
والحقيقة أن مصطلح الرومانسية باعتباره «مسمى» لم يكن معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً لحُسْن العِشرة والتفهم والاحتواء لزوجاته رضي الله عنهن.
ولعل قصة السيدة عائشة رضي الله عنها مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين كسرت قصعة الطعام التي أحضرتها خادمة السيدة حفصة رضي الله عنها أكبر دليل على احتوائه صلى الله عليه وسلم وتفهمه لمشاعر زوجته، حيث قام أمام كبار الصحابة، وبدأ يُلَملم أجزاء القصعة المكسورة وهو يقول: «غارت أمكم.. غارت أمكم»... ولو تخيلنا هذا الحدث قد وقع في أيامنا بين زوج وزوجته أمام أناس غرباء كرجال أعمال أو جيران أو زملاء لَتَوَقَّعنا ردود الفعل تكون كالآتي:
ماذا فعلت أيتها الـ ...؟ جعلتِ زملائي يهزأون برجولتي...
هل جُنِنتِ؟ لا شك أنك كذلك حتى فعلت ما فعلتِ.
ومن الممكن أن يخاصم الرجل زوجته لفترة طويلة ويحاول تذكيرها دائماً بهذا الموقف عند أيِّ نزاع أو خلاف، وربما يرمي عليها أيضاً يمين الطلاق.
وباختصار، فإنّ ردود الفعل جميعها تندرج تحت إطار السلبية التي قد يرى البعض أنها طبيعية بناء على الفعل الذي حصل.
ولكن الإسلام بسماحته والنبي صلى الله عليه وسلم بشدة احتوائه لمن يُحب كان جوابه رومانسياً بالمفهوم العصري الحديث، مما أثَّر على مشاعر السيدة عائشة رضي الله عنها وأدى إلى ندمها على فعلتها، فما كان منها إلا أن تقدمت معتذرة على ما بدر منها.
واليوم نحتاج أكثر من أيِّ وقتٍ مضى إلى هذه العواطف وهذا الاحتواء العجيب الذي لا يمكننا إلا أن نقف أمامه مذهولين. وتتعطّش المرأة المعاصرة إلى هذا الدفء والأدب حتى عندما تفقد هي السيطرة لسبب أو لآخر. ولا شك أنّ المديح والثناء أو العتاب اللطيف الذي لا يؤذي المشاعر هو الترياق لكثير من المشاكل التي تعترض حياة الأزواج.
وفي استفتاء شمل ستين امرأة متزوجة حول تقدير الرجال لمشاعر زوجاتهم أمام الآخرين، أظهرت النسب أن 50 ٪ من الرجال يتحاملون على زوجاتهم أمام الآخرين وينتقدون تصرفاتهن؛ مما يؤدي إلى تعكُّر مزاج الزوجات والوصول إلى الشعور بالكراهية لأزواجهن.
لذا فإنّ المرأة تفضل أن يحافظ الزوج على مشاعرها في المواقف المختلفة بحيث تشعر أنها في أمانٍ نفسي دائم وتطمئن إلى مشاركة زوجها لها في أحلامها وطموحاتها وحتى في تطويرها وتصحيح أخطائها. وهذا ما تريده المرأة من الرومانسية التي غابت عن كثير من البيوت وحلَّت مكانها صورٌ من الملل والرتابة والخلافات فضلاً عن الانشغال بظروف الحياة ومصاعبها اليومية.
لقد اعتادت المرأة المعاصرة على غياب الدفء من بيتها بحيث باتت تنتظر من زوجها أن يقوم بين الحين والآخر بلفتة لطيفة تعيد إلى ذهنها أياماً وأحلاماً قد أصبحت منسيّة بعد أن حملت لقب «متزوجة»، لذا فمن الأهمية بمكان أن يبدأ الإصلاح للمفاهيم داخل البيوت، وأن تنتعش مبادئ الألفة والمحبة والمودة التي تعتبر الرومانسية جزءً لا يتجزأ منها. ولا بدَّ من حملات توعية للشباب المقدِمين على الزواج وللمتزوجين القدامى حول أسس العلاقة وبنائها الشامل الذي يجب أن يبقى متيناً رغم مرور السنين، وليس عيباً أن تقام دورات بهذا الشأن للرجال والنساء على حدٍّ سواء، لأنّ كثيراً من الأفعال التي تطبق داخل البيوت ناتجة عن جهلٍ بما هو صواب وجهل أيضاً بحقيقة العلاقة السامية بين الرجل والمرأة؛ وما هذه الأخطاء إلا وليدة التربية التي تَلَقَّتها الأجيال لسنوات طويلة.
قد آن الأوان لنرقى بالمجتمع من جديد وذلك من خلال تبيان المفاهيم الخاطئة في قضايا الزواج لتنشأ البيوت على الأسس الحقيقية التي أرادها المولى من العلاقة الزوجية، أسس الألفة والمودة والسكينة كما قال عز من قائل: {ومن آياته أن خَلَقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن