الربانية.. حياة الروح (6/6)
اللهم أسكِنَّا يا سميعُ يا قريب جنَّةَ عدْنٍ الَّتي أُعِدَّت للمتقين، دَعْواهم فيها سبحانك اللَّهم، وتَحيَّتُهم فيها سلام، وآخِرُ دعواهم أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، يا نافع، يا رحمن، يا رحيم، وبِقُدرة بسم الله الرحمن الرحيم ارْفَع قدْرَنا، واشْرَح صدورنا، ويسِّر أمورنا وارزقنا من حيث لا نحتسب بِفَضْلك وإحسانك وكرمك، يا مَن هو الله، وأسألك بِجَمال العِزَّة وبجلال الْهَيبة وعزَّة القدرة وجبَروت العظمة أن تَجْعلنا من عبادك الصَّالِحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
وأسألك بها سلطانًا نصيرًا، ورِزْقًا كثيرًا، وقلبًا قريرًا، وعلمًا غزيرًا، وعملاً بريرًا، وقبرًا منيرًا، وحسابًا يسيرًا، ومُلْكًا في الفردوس كبيرًا، وتوفيقًا مُبينًا لإصلاح أنفسنا والأَخْذ بها لتكون أنفسًا ربانيَّة صالحة مستقيمة، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين، والحمد لله ربِّ العالَمين بقدر عظمة ذاتك يا أرحم الرَّاحِمين.
ولْنختَتِم أخي الحبيب سلسلة الربَّانية حياة الرُّوح، والتي نسأل الله أن تكون خالصةً لوجْهِه الكريم في الموازين، نافعةً للعالَمين.
فنقول، ومِن الله التَّوفيق والسَّداد:
مصدر السعادة:
ضع نُصْبَ عينك دائمًا أنَّ السعادة الكُبْرى والحقيقية إنَّما هي في طاعة الله، وأن سعادتك الأبدية لن تكون إلاَّ في دار الخلود، حيث لا أذُن سَمِعَت، ولا عين رأَتْ، ولا خطَرَ على قلب بشر: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54 - 55].
حاسب نفْسَك:
لِتَكن مُحاسبًا لنفسك نِهايةَ يومِك، ولْتَكن لك ساعةٌ تُحاسبها فيها على ما أحسنَتْ فيه طوال يومك وعلى ما فرَّطَت فيه؛ فإنْ وجدْتَ إحسانًا فعليك بالسُّجود شكرًا للباري، واطلُب منه المزيد من الْحسن والإحسان، وإنْ وجدتَ تقصيرًا فعليك بسؤال القدير أن يسدِّد التقصير ويعفو عن الكثير.
روى الإمام أحمد في كتاب الزُّهد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالَكم قبل أن توزَنوا؛ فإنَّه أهون عليكم في الحساب غدًا أنْ تُحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتَجهَّزوا للعَرْض الأكبر"، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].
ونقَلَ ابنُ القيِّم عن الْحسَن أنه قال: "المؤمن قوَّام على نفسه، يُحاسب نفسه لله، وإنَّما خفَّ الحسابُ يوم القيامة على قومٍ حاسَبوا أنفُسَهم في الدُّنيا، وإنَّما شقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخَذوا هذا الأمرَ من غير مُحاسَبة".
وقال وهْبٌ فيما ذكره الإمامُ أحمد - رحمه الله -: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعاتٍ: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسب فيها نفْسَه، وساعة يَخْلو فيها مع إخوانه الَّذين يُخْبِرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نَفْسِه، وساعة يتخلَّى فيها بيْن نفسه وبين لذَّاتِها فيما يَحِلُّ ويَجْمل، فإنَّ في هذه الساعةِ عونًا على تلك السَّاعات، وإجْمامًا للقلوب".
وهناك بعض الثِّمار العظيمة التي يَقْطفها المُحاسب نفْسَه، منها:
1- التعرُّف على عيوب النَّفس مِمَّا يُساعد في تلافيها.
2- المساعدة على الخوف والمراقبة لله بصِدْق.
3- الوصول الحيُّ إلى الله بِذُلٍّ وانكسار.
4- الفوز بِجَنَّات الله.
طهِّر قلبك:
إيَّاك أن تَنام وفي قلبك شيءٌ مِن بُغْض، أو حقْد، أو حسَدٍ لأحَدٍ من إخوانك المسلمين؛ فذلك كفيلٌ بدُخولك الجنَّة، وكلُّنا يَعْلم قصة عبدالله بن عمرو بن العاص مع سعد بن أبي وقَّاص، وسبب تبشير النبِيِّ محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - إيَّاه بالجنَّة مِن أنَّه "كان لا يَنام وفي قلْبِه ضغينةٌ على أحَدٍ من الْمُسلمين".
التفكُّر:
احرِصْ باستمرارٍ على مُمارسة عبادة التفكُّر منفردًا مع نفسك، خاليًا فيها بربِّك، كما كان يفعل حبيبُك وقدوتُك خيْرُ الخَلْق محمَّدٌ في غار حراء مَهْبطِ الوحي، وقد أمَر الله - سبحانه وتعالى - بالتفكُّر بقوله: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ﴾ [آل عمران: 191]، وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تفكَّروا في آلاء الله، ولا تفكَّروا في الله)).
وقد قيل في التفكُّر:
1- قال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: تفكُّرُ ساعةٍ خيْرٌ من قيامِ ليلة.
2- قال وهْبُ بنُ مُنَبِّه: ما طالَتْ فكرة امرئٍ قطُّ إلاَّ فَهِم، وما فهم إلاَّ عَلِم، وما علم إلاَّ عَمِل.
3- قال بِشرٌ الحارثي: لو تفكَّر الناسُ في عظمة الله تعالى ما عصَوْه.
4- كان سفيان الثوريُّ من شدة تفكُّرِه يبول الدَّم.
الوصيَّة:
لِتَكن وصيَّتُك دائمًا مدوَّنةً ومُسجَّلة بتفاصيل وأخبارٍ دقيقة، ولْتَحرص على تسجيل حقوق العباد فيها؛ مِن التزاماتٍ ماليَّة أو غيرها، وكذلك تسجيل حقوقك لدى العباد، ولا تَنْسَ أنْ تُدوِّن في وصيَّتِك أن تُدْفَن مع الصَّالحين، وألاَّ يُقام حالَ وفاتِك ما يُغضِب الله ربَّ العالَمين.
ما يَجِب أن تُدَرِّب زوْجَك وأولادك على مثل ذلك السُّلوك، ولْتَكن الوصيَّة في مكانٍ بالدَّار معروفٍ لأهلها من الزَّوجة والأولاد، أو الأُمِّ والوالد والأشِقَّاء، واحرص على عدم نسيان شيءٍ في الوصية.
تذكَّرْ خروج الروح:
تذكَّرْ باستمرارٍ لَحظاتِ الاحتضار، وخروج روحِك إلى بارئها العزيزِ الغفَّار؛ فهذه اللَّحظات من وقْتِها يكون المصير قد تحدَّد؛ إمَّا إلى جنَّة أو إلى نار؛ ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 29 - 30].
كن معتدلاً:
احذر باستمرارٍ من الإفراط والتَّفريط في كلِّ أمور حياتك، وكن دائمًا وأبدًا وسطيًّا مُعتدلاً، فالرِّفق ما كان في شيءٍ إلاَّ زانه، وما نُزِع من شيءٍ إلاَّ شانه.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]
كن حامِدًا:
الْزَم الْحمد وكن من الحامدين، واعلم أنَّ في الحمد سعادةً للزَّاهدين والعارفين، وهو دأب الصالحين المهديِّين، واعْلَم أنَّ كل مسلمٍ عاقل، راشد رشيد، كيِّسٍ فَطِن، يسعد دائمًا في بيتِ الحامدين؛ فهو بيتٌ فيه تسمو النُّفوس من جديد؛ لترقى بإنسانيَّتها رُقِيَّ تَجديد، وتُغسَل القلوب فيه بِماء وردٍ وطيب، فتنتعش فيه انتعاشَ المتلهِّف إلى رضوان الله الحبيب في جنَّات الخلود، هناك حيث الطِّيب وكلُّ الجديد.
فشمِّر الساعد، واحمد الواحد، وأسرع إلى الربِّ الحميد
خاتمة:
اللَّهم أَحْيِ قلوبنا وروحَنا بنور معرفتك ومَحبَّتِك، وأحْيِ أجسامنا وجوارِحَنا بنور عبادتك ولزوم طاعتك ودوام خدمتِك، وأن ترزقنا حسْنَ القيام بِحقِّك، وتَملأ أيدِيَنا من طيب رزْقِك، وتَشْملنا بِخَفِيِّ لطْفِك، وتُملِّكنا زمامَ أنفسِنا حتَّى نقودها إلى ما فيه رضاك، ونَيْل القرب منك، وطهِّرنا من دنس المخالفات والشَّهوات، وآتنا رحمةً من عندك، وعلِّمْنا من لدُنْك علمًا، وهَبْ لنا حِكْمة وحُكْمًا، وعافِنا من سخطك وغضبك ومن جميع أنواع البلاء، واحفَظْنا من سوء شرارِ خَلْقك وشرورهم، ومن الشُّرور كلِّها، ومن جميع البليَّات والمِحَن، وأَعِذْنا من مُضِلاَّت الفِتَن، ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا من الربَّانيين، وهَبْ لنا فضلاً عظيمًا، وكفِّر عنا سيِّئاتنا، وأدخلنا مُدْخلاً كريمًا، يا أرحم الراحمين.
وصلَّى اللهم على نبيِّنا وحبيبنا وقدوتنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مُعلِّمِ الناس الْخَيْر.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة