في ضباب الماضي....؟!
فوق التلال المتربعة على صدر الطبيعة الساحرة كان يتصفح ذكريات الطفولة وأيام الصبا، يقرأ ما سطرته أحرف أبجديته في تلك الأيام الخوالي، فتارة يقرأ الجمل متناسقة وأخرى تتبعثر الكلمات في عبارات غير مفهومة المعنى... لماذا حصل كذا...؟! ولماذا لم يكن كذا؟!... ذكريات تتراءى أمام ناظريه في أفق البحر الممتد كأنه الزمن يتقلب بين أمواجه الناعمة... وفجأة تتحرك من بعيد موجة عالية، خرجت من بين تلك الذكريات لتندفع إلى صدره مباشرة بقوة وسرعة لا يستطيع ردهما، لترمي به بين أحضان حسناء متلفعة بالبياض والدلال، فلا يجد رادعاً من الوقوع في حبها، حتى الهواء امتزج بشذاها فزاده إغراء وهياماً، وبات من لحظته كالتائه في لجج البحار.
فمن هي هذه؟ وكيف استطاعت أن تملك منه ما ملكت؟! ولماذا كان هذا الاستسلام لهواها؟
حملته تلك الأسئلة في زورق يعبر به الحاضر ليغيب في ضباب الماضي... ليصل إلى تلك البداية التي ستجعله أسير هوى تلك الحسناء.
كانت خاطرة انقدحت في ذهنه: لماذا أدرس؟ وما الذي سأجنيه من هذا التعب المضني؟
وتولدت من الخاطرة أفكار وتساؤلات تتجاذبه بين الحين والحين: استيقاظ عند الصباح الباكر وتمضية وقت فوق مقعد خشبي يئن من كثرة ما مرّ عليه من التلاميذ، وكرّاسات ينوء الجسد من حملها وتعيي العقل من مذاكرتها، وألوان من العقوبات الوظيفية يومياً... إلى متى هذا الحال؟
إلى متى سأبقى أسير هذه الحياة المقيدة؟ أليس من الأفضل أن أعيش أيامي كما يحلو لي وأن أمتّع طفولتي وأزهو بها وأحيا في التسلية والمرح؟! لماذا لا أغادر هذا العالم الذي فرضه عليّ والدي؟
إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خرج فيه من المنزل، ولكن ليس باتجاه المدرسة وإنما إلى حرش، وتجمّع فيه الأقران حول بعضهم يستجْدون الدفء في ذلك الجو السقيم، فرّوا مما يرونه جحيماً ليلاقوا برودة العالم الخارجي، فأي مسؤولية قد تاهت مع ضياع هؤلاء؟
وفي المدرسة لم يكن من الصعب تغطية الغياب، فما أكثر من يحمل الأذرع من الستائر ليخفي آثاماً وهو لا يدري أنه يجهز لكفن شخصٍ ما.
وأول الضياع انحراف عن الجادة مقدار ميل، فإذا استمر الانحراف كانت الهاوية في الانتظار.
ومرّت الأيام وهذه الأفكار تزور صاحبنا لتكمل الاعتناء بغراسها التي زرعتها بذوراً منذ سنة... وها هي اليوم قد أصبحت نباتاً في أرض الضياع.
ها قد أصبحتُ شاباً وسيماً وأتممت الحادية عشرة من عمري!! ويمكنني أن أفعل مثلما يفعل الشباب! هم ليسوا أفضل مني! ففلان ليس لديه الجرأة التي أملك! وفلان قصير القامة.. هههه بينما أملك من الجسم ما يفوقه وزيادة! ولو نظرت إلى فلان لرأيت الجبن في عينيه مرسوماً بينما لا يستطيع أن يقف في وجهي أحد! وقد تفوقت عليهم في أساليب الاحتيال جميعاً! فما من أستاذ يستطيع أن يقف أمامي ولا أن يوجه إليّ كلمة وإلا كل هؤلاء ليسوا أفضل مني .. غداً لن يردعني شيء وسأتفوق عليهم جميعاً.
ويطبق الليل... وتتلألأ النجوم في السماء كأنها قطرات الدمع من وجه البؤس يبكي حاله ويسأل: لماذا تسوق الأهواء مثل هذا اليافع ليقلب المفاهيم؟! وأين عين الوالدين؟! بل أين قلب الوالدين؟
وتأوهتْ نجمة كانت حاضرة طيلة تلك الليالي التي غرقت فيها عينا ذلك الفتى في بكاءٍ وأنينٍ بعدما هوت عليه سياط الوالد تضربه وتقول له: "سأربيك..." فهل كان ما قال ؟
وخَفَتَ بريق النجوم التي توارت في حجب أنوار الشمس وهي تتسلل إلى الآفاق تخشى أن يستيقظ الفتى فيمضي على ما بيّت النية على فعله... بينما غرق الوالدان في جهلٍ عمّا يدور في خَلَد ولدهما لما علما أن حياته قد اتخذت منحى آخر غير ما يرجوان.
واستيقظ الفتى من نومه... وخرج من منزله... والأهل يظنون أنه يمضي إلى ضياء العلم يقتبس منه نوراً، وما علموا أنه على موعد مع حبيبة ستستولي على لبّه وفؤاده وتأخذ به إلى عالم الأسقام .
وقف أمامها ينظر إليها بإعجاب وحب وشغف... فكم سمع عنها وعما تفعل في المرء من أعاجيب..
قيل له أنها تبعث السرور والحبور في الروح..
وأن لها مفعولاً لا يوصف من اللذة والمتعة..
وأنها الوحيدة في الكون التي ستحترق من أجله...! فواعجباً من هذه الحسناء! ما أروعها..
أخيراً حصلتُ عليها وها هي بين يدي..
لمست أصابعُه بشرتها الناعمة، فتمددت بانكسار وخضوع وهي تبثّ تنهّداتها المثيرة في صدره أنفاسَ موتٍ بطيء سيتسلل إلى جسده في كل أيامه القادمة.
ومنذ تلك اللحظة صار لها حبيباً وصارت له رفيقاً يحسبها منقذته من ألم الحياة وما أدرك لِسَنواتٍ أنها وهم وأنها السم يتجرعه بحبٍّ بين الحين والحين.
كانت الشمس قد شارفت على المغيب وبدأ الضباب ينتشر، ولم يعد للطبيعة ذاك السحر الذي خيّم على المكان في النهار... فألقى نظرة في الأفق مودعاً ومضى... مضى مصمماً على الخروج من ذلك الضباب إلى عالم النور... أليس الصبح بقريب؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن