وألْفَتْهُ لدى الباب!..
كان لقاؤنا الأول في مكّة المكرّمة.. عند انعقاد مؤتمر علمائي شارك فيه أزواجنا.. تعرّفت عليها ولم تلبث أن تغلغلت في الحنايا.. خلوقة، ملتزمة، صابرة، غير متكلّفة، وسهلة التعامل.. وغيرها قد يمتشق عنان الكِبر لِما قد حباها الله تعالى من النِّعَم.. في عالمٍ منقلب الموازين والمادية أميرته! هي من بلدي ولكنه بخل علينا بتعارف في ربوعه.. كأنّ الله جل وعلا أراد لأخوّتنا أن تنبع من أرضٍ سَمَت بروحانياتها فأنعشت القلوب المتهافتة للطاعات..
تفارقنا سنة كاملة.. كنا نتجاذب أطراف الحديث بين الفينة والأُخرى على الهاتف.. حتى شاء الله عز وجل أن نلتقي مرة أُخرى في مكة المكرّمة.. رأيتها في الحرم بعد صلاة المغرب.. ناديتها وتعانقنا عناق أختين جمعهما الله جل وعلا وكلهما أمل أن تكونا في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.. وفي جنّة الخلد على منابر من نور يغبطهما عليها الشهداء.. عناق لن أنساه ما حييت.. فقد بكَت أخيتي فيه حتى الثمالة.. اعتقدته بكاء الشوق ولكنه طال.. كانت تشدّ عليّ كطفل أعياه التعب.. ثم جلسنا في زاوية الحرم.. وأخبرتني أن ذاك الخبيث عاد ليقتات من جسدها! غاب عنها خمس سنوات ليعود اليوم.. صبّرتها وذكّرتها بقدرة الله جل وعلا وبابتلائه الأنبياء فالأمثل.. وبأنّ الطبّ تطوّر ولتأخذ بالأسباب وتتداوى والله تعالى أكرم..
كانت بالرغم من دموعها صابرة محتسبة حامدة.. فأمثالها ممّن قَضَوْا أعمارهم في الأعمال الخيرية وخدمة المحتاجين يدركون تماماً ماهية الإيمان الصلب وحقيقة الدنيا الزائلة.. كان قلب الأم عندها قد تضخم حجمه.. تكلّمت عن أولادها بحب.. ثم عرجت على شعورها المتفاقم بتفاهة هذه الحياة.. فكلّما أرادت شراء شيء تحجم.. فما قيمته وهي ستذهب؟! والجنسية التي يسعى لها زوجها من أجلها لم تعد تعنيها.. فهل ستعيش لتستفيد منها؟! كل شيء يتغير طعمه حين تعلم أن النهاية باتت قريبة.. وأن الموت ينتظر عند الباب للدخول!
تُرى.. لو تفكّرنا في كل لحظة من حياتنا بهذه الحقيقة: أننا راحلون.. فهل كنا أسأنا؟ وعصينا؟ وتمادينا في الغفلة؟ وبعُدنا عن الله جل وعلا من أجل حفنة تراب؟! من أجل دنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله جل وعلا؟! هل كنا تأزّمنا لفوات أمر نريده؟ أو رغبة حسبناها خيراً فكانت علينا وبالاً؟! هل على الموت أن يقول أنا هنا حتى ندرك أنه في أي وقت سينقضّ علينا ليقبض أرواحنا؟! «كفى بك الموت واعظاً يا عمر»!
عبارةٌ لو عشنا معانيها لكففنا عن الذنوب إلا اللمم فنحن بشر.. ولاستغفرنا الله تعالى كثيراً في كل وقت وحين.. ولصلحت قلوبنا وعمرت قبورنا.. ولاصطلح أمر دنيانا وعلاقاتنا مع الناس.. ولطِبْنا أحياء وأمواتاً..
إنه لدى الباب.. فلا يغرّننا طول الأمل.. وما هو إلا استظلال في فيء شجرة ثم نمضي.. بأحمال ثقيلة.. تسير بنا إلى جنّة أو جحيم.. فالقرار لنا في أي الدربين نسير.. قد هدانا ربنا جل وعلا للطريق القويم.. فإن حِدنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا.. ولنتذكّر: الإخلاص والأخلاق زاد وفير.. في عالمٍ قد سقط..
فاللهمّ صبراً وعوناً وثباتاً..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن