الطّفل والطبيعة
في يوم ربيعيٍّ بديع، مشى طفلٌ في ربوع الطبيعة الخلابة وتاه في وديانها... تسلّق الجبال، وعبَر الأنهار، وجال بين الأشجار الباسقة من دون هدف. وبعد أن ملّ من التيه والضياع، توقّف عن السّير وأرهف السّمع، فإذا بصوتٍ حنونٍ يدعوه إلى التأمّل فيما حوله.
وجد الطّفل نفسه وسْط حقل سنابل. رأى مجموعة منها وقد زهت بكبرياء وتعالت على أقرانها باستقامة سيقانها الممشوقة، ولكنّه تفاجأ بأنَّ أعلاها فارغٌ وخالٍ من حبوب القمح. وفي المقابل، وجد مجموعة أخرى قد انحنت سيقانها ونكّست رؤوسَها تواضعاً تحت وطأة ما تحمله من القمح الكثير والخير الوفير. فتعلّم الطفل أن النّاسَ ذَوِي الرؤوس الفارغة يتعالون ويتكبّرون وأن النّاس ذَوِي العقول الرّاجحة والأعمال الخيّرة يتواضعون كلّما ازدادوا علماً وفهماً... قطف الطفل سنبلة مكتنزة بالقمح لتكون تذكاراً له ومشى...
دخل مغارة كبيرة فوجد قطراتٍ صغيرةً من الماء تتساقط عليه بين الفينة والأخرى. جلس كي يستريح ومرّر كفّه على الأرض الرطبة، فإذا به يجد حُفَراً واضحة. تساءل عن مصدرها، فوجد جوابه في تلك القطرات الواهنة. فأدرك أن المفتاح هو في اللين لا في القوّة، وفي الاستمرار والصبر لا في قِصَر النَفَس، وأن الماء يحفر في الصخر مع الوقت.
أصبح الطّفل شاباً فأراد أن ينتقي من الزّهور أجملها، فوجد وردة الجوريّ تدعوه إليها بلونها الأحمر القاني وبِرِقّة بتلاتها النديّة وبعبيرها الفوّاح، كما أنها قريبة من الأرض وسهلة المنال. ومرّت الأيام، فإذا بأوراقها تذبل وتتساقط وإذا بأريجها يتضاءل حتى اختفى!. فعلم الشابّ حينئذٍ أنها لا تصلح له، فطفق يبحث عن غيرها حتى وجد مبتغاه. رآها متواريةً وراء حجابٍ من الأوراق الخضراء... متدلّيةً من غصنٍ مرتفع فلا يطالها العابث وعابر السّبيل... حمرتها فيها شيءٌ من الخجل... تسلّق الشجرة ليدنوَ من زهرة الرّمان تلك، وعلى عكس الأولى لم تذبل، بل تحوّلت إلى ثمرة رمّان تحمل في داخلها الدرّ. فعلِم حينئذٍ كيف سيختار رفيقة الدرب.
مشى الشّاب في الطبيعة فتعلّم النظام من النحل والإصرار من النّمل، وتعلّم أن الأشجار التي تبدو للناظر مثال الاستقلال هي في الحقيقة متعانقة الجذور، داعمة لبعضها البعض وحامية لِثرَى الغابة. أدرك أنَّ الطريق إلى القمّة فطريقٌ لم يدُسْه كثيرٌ من النّاس، فما هو بظاهرٍ للعين ولا هو بِخالٍ من الأشواك والعقبات.
قرّر الشّاب أن يسير في هذا الدّرب رغم صعوبته، وغدا الشّاب رجلاً، ووصل بعد مشقّة إلى القمّة...
نظر الرّجل إلى الدرب الذي سار عليه وتذكّر كيف بدأت رحلته بِتِيهٍ... وانتهت بهُدًى. ولكن أهمّ ما اكتشفه في رحلته تلك أن الطبيعة ليست مَن علّمه، بل مبدعها الذي أوجد فيه عقلاً نيّراً ودعاه إلى التفكّر في آلائه... فسبحان مبدع الأكوان... معلّم الإنسان البيان...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن