العرس.. الجريمة!
لا أحد يدري ماذا يخبّئ له الغيب... وما التبرّم والتذمّر إلا لأننا ضعفاء، نكثر الجدال. ولعلّ الذي حصل مع الشاب السوري محمّد هو عين ما أقصد. تقول الحكاية: إنّه انضمّ رغم أنفه إلى الجنود الذين أخذهم الأتراك فيما يسمّى (سفر برلك)، رحل وهو طريّ العود أخضره، من مسقط رأسه حماه، إلى تركيا حيث تزوج من امرأة تركية عجوز! ثم ما لبث أن هرب منها وفرّ عائداً إلى حماة.
قرر محمّد بناء حياته من جديد، فعقد قِرانه على فتاة حمَويّة، وسرعان ما رزقه الله تعالى غلاماً اسمه صبحي.
عاشت عائلته الجديدة في غرفة من دار كبيرة ضمّت العائلة الكبيرة، كما جرت العادة.
دخل محمد غرفته يوماً وقد بدا على وجهه تصميم على أمر ما! فبادرته زوجه قائلة: خيراً يا ابن عمي! لِمَ تبدو مقطباً هكذا؟ أجاب: لا أُخفي عليك أنّ الوضع الاقتصادي يضغط بثِقله علينا، لذا سأسافر لعلّي أجد عملاً يخفّف من وطأة الديون. سأسعى في الأرض، والرزق على الله تعالى. امتُقع وجه زوجه، حتى غدا كالليمون الحامض! وانبرت قائلة وهي مذعورة: تسافر؟! تتركني وحيدة؟! فردّ بسرعة: وحيدة؟! ماذا تقصدين؟ أنت مع العائلة! سأتركك بأمان وسلام! وولدي في حضن جَده وأعمامه.. ما الضير في ذلك؟
لم يدرك محمد أن هناك حرباً دائرة بين زوجة الأخ الأكبر وباقي النساء في الدار؛ فقد كانت امرأة متسلّطة ومفسدة؛ نصّبت نفسها (حماة) بدل أمه المتوفّاة...
سافر محمد... وكم تناوشته الظنون، وكم أقلقته الوساوس...
وأصاب حدسُه... فقد وصله نبأ وفاة والده، فاسترجع وحوقل وقفل راجعاً... لم يوفّق في عمله، ولم يشهد لحظات والده الأخيرة. وبكلّ انكسار حضن وحيده الصغير واعتصره وأكبّ يقبّله، يفرغ فيه كلّ حنانه واشتياقه له، بل كلّ ضعفه وغربته. وواجه شبحاً هزيلاً يدعى زوجته! يا ألله! لِمَ كلّ هذا؟ ووجد الجواب حاضراً يتحرك أمامه! يتمثل في زوجة الأخ الأكبر، كانت تأمر وتنهى و... و... لقد بلغت من بطشها مبلغاً جعل كل إخوته يسمعون لها ويُطيعون!
وفي عصر ذلك اليوم، بينما كان محمد يهمّ بدخول غرفته، فإذا بزوجة أخيه الأكبر تناديه، فارتبك... أيدخل موهماً إياها أنه لم يسمعها؟ أم يجيبها؟ فقطعت عليه حبل تردده منادية بصوت أعلى من السابق، فنكس رأسه منهزماً وخطا متثاقلاً نحوها، فأشارت إليه أن الحقني. قادته بخطى عصبية إلى حيث يقبع أخوه الأكبر، فجلس قربه، ثم ما لبث أن سمع فحيحاً يقول: اسمع يا محمد، هناك أمر يجب أن تنفذه فوراً، أوكلني والدك رحمه الله (وتصنّعت دموعاً تكفكفها) أن أخبرك به، ولقد انتظرت حتى هدأت النفوس. وتلقى الخبرَ كالصاعقة، وتَزلزلَ كيانه: كان والدك غاضباً على زوجك، وقبل موته أوصى بأن تطلّقها، وإلا فإنه سيغضب عليك في تربته... انعقد لسان محمد، ماذا فعلت زوجتي؟ التفت إلى أخيه متلهفاً لجواب، لم تُنظِره حتى يستوعب الأمر: إذن؟ والدك ينتظر!
زوجتي المسكينة، صبحي! والدي الحبيب؟... وطلّق زوجه خوفاً من إغضاب أبيه في قبره!
وبمرور الأيام لم يحتمل محمدٌ نفسُه استبدادَ تلك المفسدة، فارتحل هارباً بابنه رفيق عمره إلى شمال لبنان، حيث تزوج... ولم يمض الكثير على زواجه حتى اكتشف أنها كانت تضطهد طفله وتُبقيه خارجاً، فما كان منه إلا أن طلّقها، ويمّم وجهه شطر بيروت المحروسة حيث لاحت تباشير السعادة في الأفق... وأخيراً امتدت يد حانية لتتلقف ذاك الطفل المسكين، وذاك الشاب المهاجر الوافد، فتزوج من فتاة بيروتية فاضلة، عوّضته ووحيده سِنِي البؤس والشقاء أعوامَ حنان وحب. كبر صبحي وأصبح شاباً وسيماً فاضلاً طموحاً، يَنشُد بجرأة وتحدٍّ بناء مستقبله.
وفي عصر أحد الأيّام وبعد انتهاء صبحي من عمله، زارتهم امرأة في دارهم، وعندما دخلت تهيأ صبحي للخروج، فما كان منها إلا أن كشفت عن وجهها، وشهقت محدقة به! ففوجئ بردة فعلها تلك، وحثّ خطاه خارجاً، فقطعت المسافة بسرعة قائلة بصوت متهدّج: أأنت صبحي؟! لم يرفع بصره عن الأرض مجيباً: نعم أنا هو.. فقرّبت وجهها من وجهه ونظرت مباشرة في عينيه وقالت: أنت صبحي بن محمد؟! فقال متردداً: نعم، كيف أساعدك؟ فهاله تدفق الدموع الغزيرة، وسمعها تقول بصوت متهدّج: أنا أمك يا صبحي! وراحت تهزّ رأسها صعوداً ونزولاً أن نعم صدقني يا ولدي. بكت زوجة أبيه وبكت أخته وبكى هو، وغاب الوالد الحنون عن هذا المشهد...
تلك الأم المظلومة رجعت تطالب بفلذة كبدها الذي سُرِق من حضنها وهو صغير! راحت تشمّه وتقبّله وتضمّه وهو رجل كبير... وقد عزمت على أن تعوّضه سنوات الغياب، وتملأ فراغ جَنانها المعذّب.
قالت: جئت آخذك لتتعرّف على إخوتك وخالاتك وأخوالك، ولتقضي عندنا بعض الوقت، فما رأيك؟ خجل من إلحاحها وأشفق عليها، وشعر بأنه ملزَم بإسعادها وإسعاد نفسه، وهو الذي حُرم منها بكل قسوة..
عندما دخل خادم جامع الرمل بعد صلاة العشاء منزله، كان شعورٌ بالثِّقل والكآبة يغلّف عقله، هو ذا الحدس نفسه الذي طالما أنذره بوقوع الكوارث، فراح يبحث عن وجه رفيق عمره، ولما لم يجده وضع يده على قلبه، وتوجّس خيفة... وعندما أخبرته زوجه سقط على الكنبة مهموماً. لقد أخذته أمه إلى حماه... يا ربي لُطفك... دخيلك يا رب.
مع مرور الأيام ظنّ محمدٌ أنّ ابنَه لن يتأخّر، ولن يمكث طويلاً، فهو يعرف مدى تعلّقه به! في حين كانت أم صبحي تفكّر في كيفيّة إسعاد ابنِها! ونفسِها أيضاً! لا بد أن يبقى صبحي معها! نعم ستسعى لتزويجه!
فهل أرادت الانتقام بفعلها هذا؟! لا أحد يدري. لكن الأم الرؤوم لم تكن تدري أنّ ثمّة خَطْباً يعاني منه ابنها.. وقد يؤدي إلى حتفه مباشرة! فقد رجع صبحي مرة إلى منزله، بعد يومٍ حافلٍ بالتعب والكدّ، وقد نال منه الحرّ تماماً، فخلع قميصه المبتلَّ عرقاً، وتمدد على البلاط يَنْشُد البرودة، فتضررت رئتاه وكاد يهلك. وبعد العلاج، شفاه الله تعالى، لكن الطبيب حذّر والده قائلاً: ممنوع منعاً باتاً على ابنك مزاولة أيّ عمل مضنٍ ومتعب، حتى الزواج، ولمدة خمس سنوات من الآن.. هذه الحقيقة المخيفة لم تعرفها الأم القادمة من الماضي...
وفي لحظات الغفلة الخاطفة، وظّفته ليعمل صباحاً وأعانته ليجد عملاً مساء، حتى يؤمّن تكاليف العرس والزواج، والوالد لا يدري ماذا يخبىء القدر! ودون إخطاره جرى العرس، وفرحت الأم وقرّت عينها بصبحي.
وبعد سبعة أيام، وأثناء جلسة ضمّت العروسين والأم التي ارتاعت وانخلع قلبها، إذ رأت صبحي يبصق الدم في كل مكان! وأُسقط في يدها... استيقظ محمد فجر ذاك اليوم، وشعور رهيب يصحبه! تعوّذ بالله ثمّ توجّه للمسجد، ملازماً الاستغفار. وما إنْ أشرقت الشمس حتى جاءه أحد أولاده يطلب حضوره إلى البيت، مشى مهرولاً، واضعاً يده على قلبه... وما إن رأى ولدَه أمامه حتى كبّر حمداً لله، لقد عاد رفيق عمره أخيراً! وبعد أن عاد رشده إليه رآه... رأى ابنه متهاوياً على الكنبة وكأنه خرقة بالية! ملامحه غائبة، يكسوها الشحوب، قال: ما بك يا ولدي؟ فسأله ولده: ما بي يا أبي؟ هرع محمد إلى المشفى فرفضوا استقباله لأن مرضه مُعْدٍ! فأخذه إلى المشفى الخاص بمرضى السّل، ولكنه لم يمكث إلا أياماً معدودة فيه... عاد صبحي ملفوفاً بكفن، محمولاً على الأكُفّ... وبكلّ حنان ضمّ تراب الباشورة جسد الشاب ذي الخمسة والعشرين ربيعاً.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!