بهم تُرزَقون
بقلم: ناريمان سنتينا
لبنان
يقول الله تبارك وتعالى: (وَأَنْ لَـوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن: 16).
ويقول أيضاً على لسان نبيه نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً* مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَاراً) (نوح: 10-13).
هذه الآيات إن كانت تحدِّثنا عن شيء فعن أهمية التراجع عن الخطأ وتصحيحه بالتوبة والاستغفار، وأن التوبة والاستغفار هي أسباب الرزق المدرار...
ولقد أدرك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية التوبة والاستغفار في نزول النصر على المؤمنين في كل حروبهم.. لذلك كان جميع قادة المعارك الإسلامية منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون حرصاً شديداً على أن يكون كل أفراد جيشهم لا يضيعون وقتهم خلال المعركة بأمور ليس فيها لله طاعة. فها هو صلاح الدين الأيوبي يتفقَّد جيشَه فيجده ما بين قارئ للقرآن أو مستغفر ومُصَلٍّ، فإذا صادف جندياً لا يفعل شيئاً يقول له: "انهض واعبد الله كي لانُؤتى مِن قِبَلِك". أي كي لا نُهزَم بسبب تقصيرك... قد يسأل سائل: لماذا وبسبب ذنب فرد يخسر الجميع؟
السبب هو كي لا يستهتر أحد بعدها ويستخِفّ بالذنوب وارتكاب الأخطاء..
في الدول المتحضِّرة عندما يحصل خطأ في أية مؤسسة نجد أن مدير تلك المؤسسة يقدم استقالته فوراً لأنه يعتبر نفسه مقصراً في المراقبة والمحاسبة والتوجيه لمن أخطأ، ولأنه لم يوجِّه وينصح ليتم تفادي هذا الخطأ... لذلك مؤسسات الغرب أنجح من مؤسساتنا وتوفيق الله لها - رغم عدم التزامها بالدين - موجود لأنها تسير على منهج الله وتحاكي سننه؛ وإن لم تكن مؤمنة بالله.
أما نحن فالمدراء عندنا لا يتحملون مسؤولية التوجيه والإرشاد للعاملين عندهم، ولا يتعهدونهم بالنّصْح لطاعة الله وتقواه في العمل؛ بل يبررون خطأ المخطئين إذا كانت هناك مصالح تجمعهم، ويظلمون ويفترون على من لا مصالح شخصية لهم معهم.. لذلك كانت مؤسساتنا كالأفئدة، خواءٌ من الداخل خَرِبَة كالبيت الخرب، تعتمد الكذب لتروّج تميّزها.. فمؤسساتٌ هذه حالها من أين سيأتيها الرزق رغداً من كل مكان؟
كنت موظفة في مؤسسة اجتماعية، وكان في تلك المؤسسة عاملة لا تعرف ديناً ولا خلقاً.. كانت ترتكب أخطاء أخلاقية في حق أطفال تلك المؤسسة فضلاً عن الموظفين الذين كانت تؤذي منهم من يكتشف أخطاءها ولا يسكت عنها...
المؤسسة كانت تعتمد على تبرعات المحسنين، وكفالات الخيّرين للاستمرار في تقديم خدماتها للناس.. ومن كثرة فداحة الأخطاء لتلك العاملة بدأت مداخيل تلك المؤسسة المالية تتقلص يوماً عن يوم وتتراجع مداخيلها.. ولكن رحمة الله بالضعفاء الذين كانت المؤسسة تساعدهم جعلت قدَر الله في هذه العاملة هو انكشاف أمرها بفضيحة كبيرة أدّت إلى طردها وطرد مثيلاتها من تلك المؤسسة... ولمّا حصل ذلك شاء القدر وتبرع أحد المحسنين بتحسين وضع المؤسسة وإدخال كل شيء حديث إليها...
يومها تحدَّثتُ وصديقاتي العاملات فيها فقلن لي: سبحان الله، لا يُحرم العبد الرزق إلا بذنب. وهناك أناس وجودهم فقر لأنهم أهل افتراء وظلم، وعندما يتمسك بهم رب العمل يجرُّ نفسه للفقر والخراب؛ لأنه
يتمسك بمن لا خُلُق له ولا دِين لأجل المصالح، ولا يدري الإنسان بحسنة من تظل المؤسسة مستمرة وبِنِيَّة مَن مِن العاملين أخرج الله من كانت سبب الفقر لتتحسن الأوضاع..
نحن عادةً لا نؤمن بأن أي عامل يذنب يجرُّ على المؤسسة التي يعمل فيها الفقر والخراب عندما لا يتوب.. مُدراؤنا لا يؤمنون بأن اختيارهم للموظف صاحب الخُلُق والدِّين يجب أن يكون مقدماً على الكفاءة؛ لأن الكفاءة تكتسب مع سنوات العمل، أما الخُلُق والدِّين فاكتسابه صعب بل مستحيل أحياناً وبالتالي وجود من لا خُلُق له يدمّر ولا يبني.
الله تبارك وتعالى جعل لباب الرزق قاعدة واحدة وهي التوبة والاستغفار، والله قوله حق وصدق...
فإن لم نتب ونراجع سنوات عمرنا الماضية لنصحّح افتراء وظلماً أوقعناه على أحد... أو لنرفع الغطاء عن موظف يظلم لأنه فقط يخدم مصالحنا.. إن لم نتحرَّ صاحب الخُلُق والدين ليعمل معنا وندعمه ليصبح من أهل الكفاءة فلن يتغير شيء في أحوال أرزاقنا ومؤسساتنا..
قد يقول قائل: نحن في سنوات قحط مالية على جميع الناس؛ لذلك لا يُرزق أحد.. وأجيب: نعم الوضع يشمل كلَّ الناس، وما ذلك إلا لأننا جميعنا تبنَّينا المصلحة، ونبذنا الخُلُق والدِّين، ولم نصحح أخطاءنا؛ فعَمَّنا قحط من الله لأننا ظلمنا وعصينا..
أمّا عن خروجنا من القحط الذي نحن فيه؛ فهو بتوبتنا وإرجاع الحقوق جميعِها المالية والمعنوية لأصحابها، ومحاسبة مَن لا أخلاق لهم ولا دِين من العاملين، وعدم إبقائهم في كنف أية مؤسسة إذا استمروا في فسادهم... إن فعلنا ذلك كانت سماؤنا مدراراً، وأموالنا من الله مداداً، وأبناؤنا سنداً، وأراضينا جناناً...
فلنتَّقِ الله، ولنخْتَر مَن يتقي اللهَ سنداً وعوناً لنا في مؤسساتنا، عندها سنُرزق بكل شيء فيه خير، وسيدفع الله عنا البلاء والفِتَن... وبكلمة واحدة "أصلحوا ترزقوا" وإلا فنحن من فقر إلى فقر أشد؛ لأن الله له سننه، ومِن سننه الرزق لمن يجتنب العصيان ويتوب ويستغفر ويصحح الخطأ أينما كان... هذا وعده وهذا صدقه... أصلحوا لترزقوا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حاصلة على شهادة ليسانس في الدراسات الإسلامية.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة