بين وظيفة الدنيا ووظيفة الآخرة
أسامة شابٌّ ولد وفي قلبه بذرة خيرٍ طيبةٍ؛ كانت تنتظر سُقيا الرعاية لتنبت وتزهر وروداً يانعة الجمال، تجذب إليها كل مَن حولها بطيبها وعبيرها الأخّاذ. جرَّب طيش الشباب في آخر سنواته المَدرسيّة وأوّل الجامعيّة منها، لكنه لم يبتعد في طيشه كثيراً بل بقي ضمن حدود الاحترام والمعقول، إلى أن يسّر الله له صديقاً أخذ بيده أثناء دراسته للمحاسبة، واجتذبه بلطف كلامه وحسن معشره إلى أن يكون واحداً من أولئك المجتهدين على أنفسهم بالطاعات، وعلى الآخرين بالدعوة، فذاق حلاوة الإيمان وبرودته في القلب، وثباته في المصائب، بعد إحساس الضياع الذي كان ينتابه سابقاً، فتمسّك بها وقطع على نفْسِه عهداً أن يكون سبباً في أن يتذوَّق الآخرون ما ذاقه من نعيم الدنيا.
كانت سعادته مرتهنة بابتسامة الراحة التي يرسمها على وجوه الآخرين بعد تذوّق حلاوة اليقين، بالخروج من عبادة الناس والأشياء إلى عبادة رب الناس والأشياء. وشيئاً فشيئاً تدرّجت هذه السعادة لتكون من أولويات اهتمامه في الحياة. يُعرِّف بعض الفلاسفة السّعادة بأنّها المعنى الذي نعطيه للأشياء من حولنا... والبعض يُعرِّف السعادة بأنّها المال، والبعض يعرِّفها بأنها الحب بين الجنسَين، والبعض يراها في الوحدة، وآخرون يرونها في الاحتفالات. المهم أن المعنى يتغير تِبعاً لكل شخص، لكنّهم جميعاً يشتركون في سعيهم الحثيث للحصول عليها بحسب المعنى الذي منحوه لها، فعندما يدرس أحدهم باجتهاد ليحصل على شهادة إنّما هو في ذلك يسعى للسعادة حسب مفهومه؛ وهو أن يحصل بعد التخرج على وظيفةٍ تمكِّنه من العيش بحياةٍكريمةٍ واستقلالٍ ذاتي. لذلك لم يرَ أسامة أيَّ بأسٍ في أن يسخِّر معظم جهده وطاقته في البحث عن السعادة المتمثلة بالنسبة له في أن يذيقَ الناسَ حلاوةَ الإيمان، حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح الأخرى أحياناً.
في آخر فصل من التخرج أَسرَّ إليه صديقُه أنهم يبحثون عن شباب للعمل الخيري التطوعي في مجاهِلِ أفريقيا الوسطى، حيث يكون الموت بالجملة هناك بسبب الأوبئة والأمراض والجهل وسوء التغذية وفوق هذا كله.. الحروب. كانت هذه فرصةً ذهبيةً بالنسبة لأسامة.. الذي وجد فيها أرضاً خِصبةً غَضَّة لدعوته. كثيراً ما سمع عن نشاط المبشِّرين المسيحيين هناك واحتمالهم لأقسى الظروف من أجل توصيل رسالة الرب، أفيعجز هو عن تحمّلها من أجل توصيل رسالة نبينا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؟
عندما سمع الأهل والأصدقاء باستعداده لسفره المُزْمَعِ إلى هذه المجاهل ثارت ثائرتهم ولم تقعد، واتهموه بالتَّسرُّعِ والجنون وطيش الشباب.. وسبحان الله!! لو أنّه ذهب إلى المكان نفسه ليحصل على وظيفة براتب عشرين ألف دولار في الشهر لما تحدَّث أحدٌ، بل وَلَغبطوه وشجّعوه وذلَّلُوا له الصِّعاب مهما أبدى منها خوفاً وهوّنوا له الأمور. أما وأن الأجر عند الله وحَسْب هو الذي ينتظره، فقد حرصوا كُل الحرص على تهويل المصاعب وتضخيمها واعتبار هذا العمل عملاً انتحارياً لا يحبه الله ولا رسوله صلوات الله وسلامه عليه!!
ركَّزوا على فكرة أن زملاء دُفْعته في جميع الجامعات سوف يتخرجون ويحصلون على كل الوظائف المتاحة المحدودة أصلاً، وهو سيكون مشغولاً بالذهاب إلى مجاهل أفريقيا حيث لن يسمع عنه أحد هناك ولن يكسب قرشاً! وعندما يعود لن يجد شخصاً واحداً يوظفه لديه ولا شركة تقبل به، بعدما شُغرت جميع الوظائف، حتى لو كتب في سيرته الذاتية أنه كان سبباً في هداية قبائل بأكملها للإسلام! فالوظيفة هنا لا تُوَفَّر
لأصحاب المعادن الطيبة وإلا لكانت الحياة جنة حقيقية، بل تُوَفَّر لمن لديهم الواسطات أو السَّبق في الحصول عليها فقط! الوضع صعبٌ أصلاً وهو بحماقته هذه يزيده صعوبة..!!
لكن كل ذلك لم يكن يلقى أذناً صاغية لدى أسامة، فهذه حياته وهو حرٌّ بها.. ثم إنّه لن يذهب لتعاطي الحشيش وزيارة الملاهي الليلية.. هو ذاهب في سبيل الله، وقد تعلَّم من مشايخه الكرام أنه "من كان الله همّه كفاه ما أهمّه" و (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) الشورى – 20 وقد كان. ذهب واحتسب كل خطوة عند الله. ذهب طالباً الأجر والثواب، قاطعاً الأمل من الدنيا كلها إلا بما عند الله. ذهب رغم الحروب الطاحنة ورغم الأوبئة ونوى نية الشهادة في سبيل الله.
ثم عاد إلى الوطن بعد أن مضت ثلاثة أشهر ونَيّفٍ على غيابه.. شاعراً بسعادةٍ غامرةٍ حقيقية لم تزيّفها حُقَن الأفيون أو دخان الحشيش.. سعادةٌ تتدفق في العروق وتَشِعُّ من عينيه المتوهجتَين اللامعتَين، التي لم تعُدْ ترى الدنيا بنفس المنظار الذي يراه بها الآخرون.
وبينما كانت أُمّه تَئِنّ على شبابه الذي ذهب هدراً بالأعمال التطوعية، ووالده يتحسّرُ على كل قِرشٍ أنفقه في تعليمه شهادةً لن ينتفع بها كما يجب، ويقارنان بينه وبين حال زملائه ووظائفهم التي حصلوا عليها، جاءه اتصال بعد فترةٍ وجيزةٍ من عودته من أحد أصدقائه الجامعيين:
أسامة، هل عُدْت يا رجل؟ نحن ننتظرك.. لدي وظيفة شاغرة هنا في الشركة تحتاج إلى شخص متفانٍ وأمين، وأنا لم أعرف شخصاً أفضل منك أُزَكّيه عندهم.. هيا اجلب سيرتك الذاتية واعتبر نفسك من الآن موظفاً رسمياً هنا! لا تتأخر أيُّها المحظوظ فهذه وظيفة يتفانى الكثيرون للحصول عليها بمكافآتها المجزية!
تسللت دمعتَين إلى مقلتَي أسامة وهو يغلق هاتفه. لقد ملأ قلبه شعورٌ بقَبول الله سبحانه لجهده، وهذا جزء من المكافأة. وما عند الله خير وأبقى.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة