إغراء المادة والتنافس بين الناس
إنَّ ما يحدث أحيانًا بين الأثرياء من تنافسٍ محمومٍ في اللِّباس والزينة، وتسابق إلى الموضة والماركات العالَمية غيرُ معقول، ولن تستطيع الفتاة مهما كانت ثريةً ومقتدرة أن تنتصر في هذه المساجلات؛ لأنها لو اشترت أغلى ساعة من أفخرِ الماركات، فإن صديقتها ستشتري أفخرَ ساعة من ماركة أخرى لا تقل عنها شهرة، وقد تكون أكثرَ بريقًا وأبهى، ولو حملت أجملَ شنطة (ومن أثمن الأنواع)، فإن قريناتها سيحمِلْنَ ما يضاهيها في الذوق والجمال والسِّعر، ولو لبِسَتْ أحدث الموضات (من يد أشهر مصمم)، لضارعتها زميلتُها (التي تتسقط أخبار دور الأزياء) في الأناقة، ولسبقتها إليها، ولخطفتِ الأنظارَ، وأثارت الإعجاب.
إنها منافسة لا تنتهي، ومناورة متعِبة وخاسرة، وسبق الرسولُ صلى الله عليه وسلم حين قال منبِّهًا: ((انظروا إلى من هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم))[1]؛ فالمنافسةُ في هذا المجال غيرُ مجدية، وستأخذ الوقت والاهتمام، ولا يمكن أن تفوزَ فيها واحدةٌ بعينِها في كلِّ المرات، وستبقى سِجالاً بين الأطراف المتبارية.
وبماذا سيستفيد الفائز؟ هل سينال جائزة؟ هل سيحصل على منصب؟
بالطبع "لا"، إذًا ما المقابل؟ ليقال: "أنيق، وصاحب ذوق رفيع"، و"من الأثرياء، وكبار القوم"، "حريٌّ أن يُحتَرَم وتُحقَّق مطالبه، وإذا خطب يُزوَّج"...؟ وإذا اقتنع الناس وقيل، فبمَ يرجع عليه القول؟ نعم، سيشعر بالفخر والسعادة والتميز... فهل ستعلو مراتبُه في الدنيا؟ نعم، قد يعلو في نظر البعض لسطحيتهم وماديتهم! وقد يتقرَّب إليه آخرون لتحقيق مصالحهم، ولكن أكثر الناس سينصرفون عنه؛ لِما سيُصيبه من البطرِ والكِبْر، وسيصبح أكبر همِّه الإسراف في التفاخر والتجمل، ومع الأيام ستصبح المظاهرُ مبلغَ عِلمه وعمَله، وسيتعالى على العباد، ويغدو سطحيَّ الاهتمام، ضَحْلَ التفكير
وإن الناس ليتجمَّلون (بالساعات الفاخرة، والملابس الغالية، والجوالات المتطورة)؛ ليحصلوا على الاحترام والتقدير، فهل تعلمين أن الله هو الذي يرفع ويخفض، ويُعزُّ ويُذلُّ، وهل تعلمين أن الإخلاص والعمل الصالح يحققانِ العزة والتقدير للإنسان؟ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10
بنَيَّتي، مَن وهَبه الله المال، أعطاه عصب الحياة، وبذرة النجاح، وإن التنافسَ على المتاع يُضيع فرص الاستثمار، ويُذهِب المال، والمال مسؤولية وأمانة، ولا يجوز إنفاقُه للمباهاة والمفاخرة، وإذا كنتِ بحاجة للحب والتقدير، فاستثمري مالَكِ في تجارة رابحة، وبدل التعالي بالمظاهر قدِّمي لصديقتِك هديةً، أو نظمي لقاءات مفيدة، وأطعمي الطعام، وأفشي السلام؛ فهذا ما يحبِّب أقرانك فيك، ويقربهن منك، ويعود عليك باحترامِهن وتقديرهن، ويميِّزك بينهن.
واستثمري قسمًا آخر من مالكِ في الصدقات، وبدل الإسراف في الإنفاق على الملابس، أعطي مسكينًا، أو اكفلي يتيمًا، حينها سيرفعك الله درجاتٍ في الدنيا ببركة العمل الصالح، وبدعاء هؤلاء الناس، وسيحبونك ويرفعون ذِكرك، ويُعْلون قدرك، وهذا واللهِ هو الفوزُ الحقيقيُّ.
وإن المنافسة على مظاهر الحياة الدنيا، وعلى متاعها الزائل - قائمة في كل مكان؛ في الجامعة، وفي الحلقات العلمية، وفي مجالس العزاء! (هذا فضلاً عن الأعراس والمناسبات التي تعوَّدنا أن تكون حلبة لهذا التنافس)، وإني لأتساءل: هل يصح أن تتنافسَ الفتيات المتعلمات المثقفات على متاع الدنيا وزينتها؟ أَوُضِعت الجامعاتُ للتنافس على الجمال والأناقة، أم وضعت للتنافس على العلم والتفوق وتطوير النفس والارتقاء بالذات؟!
أيتها الفتيات، الزمن تغيَّر، ونحن نعيش في عصر العلم، والنُّضج العقلي، والرُّقي الفكري، من أجل ذلك تحرص كل فتاة اليوم على التعلُّم، وعلى الشهادات العالية والألقاب الكبيرة، ومِن أهمِّ ما ينبغي أن تحرصَ عليه كلُّ بنت الارتقاء باهتماماتها، فتتنافس مع قريناتها على تعلُّم المعلومات والمهارات، وتتسابق وإيَّاهن إلى النجاح والعمل المفيد النافع، وتتشارك معهنَّ في المباريات الرِّياضية والثقافية والعلم
المنافسة (على المظاهر) في المجتمعات العامة الكبيرة غيرُ متكافئة، ولا تخلو من الغَبْن في أكثر الحالات؛ فالأغنى هو الفائز، والأقل دخلاً هو الخاسر، ورغم ذلك الناسُ يشتركون فيها ولا يتَّعظون! وإن التنافس في المادة ليذكرني بمسابقات الجمال التي لا يدَ للفتاة فيها (تبرز مفاتنها التي حباها الله بها، فتفوز؛ لأنها خُلِقت على صورة جميلة؛ أي: استعملت نعمةَ الله فيما لا يُرضي الله)، وكذلك بعض الأغنياء يستثمرون مالَهم في التباهي والتكبُّر على سائر العباد، ويُحرجونهم حين يُشعِرونهم بأن قيمةَ الإنسان بما يلبَسُه من ثياب وحُلي، وبمقدار ما يحمله من شنط وجوالات، وبسعر ما يركبه من سيارات... فتثور كرامةُ هؤلاء المساكين، ويُنفِقون دخلهم القليل، ويبذخون ليعلو شأنُهم، فلا يستطيعون مضارعةَ الأغنياء، وتتراكم عليهم الدُّيون، ولا يرجعون بشيء
إن أكثرَ الناس لا يملكون المال اللازم للدخول في المنافسة (على البذخ في المظاهر)، لكن كل الناس يملِكون المواهب والقدرات، ولكل فرد شيءٌ خاص يُتقِنه ويُحسِن القيام به؛ من أجل ذلك كان التنافسُ في القدرات هو الحَكَمَ بين الناس، وهو الذي يرفع ويخفض بجدارة، وبه يعلو الشأن ويخلُدُ الذِّكر، ويظهَرُ التفوُّق الحقيقي، ويبرز الذكاء، وتبدو العبقرية، وتستطيع كلُّ فتاة أن تتدرَّبَ وتنمِّيَ ذاتَها وتشارك وهي واثقة من النجاح؛ فالفرص تتكافأُ في المسابقات التي تعتمد على القدرات، ومن فازت فيها ربحت في الدنيا بما تسمعه من الثناء، وما ينالها من التقدير والهدايا والأعطيات، وسيبقى لها الثوابُ الأخروي؛ لأنها استفادت مما وهبها الله، وشكرت أنعُمَه
بنيتي، المال مِن الله، يهَبُه لمن يشاء، وإنفاقه على المظاهر سيرفع الفتاةَ في أعين الناس إلى حين، أما تفعيل المواهب وحفزُ الإبداع والتنافس على العلم والعمل، فهذا هو الميدان المباح والمتاح للجميع، وهو - والله - أكثرُ إنصافًا، وأعدل حُكمًا، وأرفع مكانةً، وأبقى أثرًا
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا