زفاف عاشق
مع تهاليل الفجر هبت نسائم الشوق متسلِّلة من بين شقوق المنزل مخترقة أجفان الحالم، منسابة إلى فؤاده المتلهف لرؤية محبوبته.
فتح عينيه اللتين لم تعرفا النوم؛ فكيف تنام عيون المُحِبّ؟! الناس يغلبهم النوم وعين العاشق لا تنام! وانطلق يسعى إلى المسجد ينتظر انبلاج النهار وزخات المطر...
فها هو الخريف قد نثر أوراقه الصفراء وحمل الصيف متاعه وارتحل، ها هي طيور أيلول ترسم في الفضاء أجمل الصور؛ تودع الطبيعة الزاهية المترنمة على أنغام الأخضر الهادئ والأحمر الملتهب، والأصفر الجَسور والبنفسجي المُغْري... تودع السماء الصافية بزُرقتها والبحر الهادئ بسحره...
ما عرف حباً لغيرها, وما عشق مثلها, وما كان لفؤاده أن ينبض إلا لأجلها. فتمدد ينظر بين الغمائم طيفها ويرسل إليها زفرات الشوق ويُمَنِّي النفس بلقياها...
فإذا هي تطل عليه من خلال السُّحب بوجهها الوضّاء نوراً؛ عيناها بحرٌ من اللبن المصفّى في وسطه العسل القاني، ورموشها شجر يحيط به فيظلِّله بالعشق والحنان، ودمع الشوق من عينيها مياه غير آسنة تسقي ورود روض الخد على الجنبين، وشعرها أشعة الشمس المنسدلة يلفّ حياته كلها نهاراً، وصوتها لحن يُطرب الأذن ويسحر الفكر ويسلب اللب... والجِيد منها مرايا تعكس الضياء ألواناً... لو تَبَسّمَتْ لَمَلأت الدنيا سروراً وغمرت المحزون حُبوراً.
كلامها بيان السحر أحرفه، صيغت من الأيام جُمَلُه، ومن أحلامها عبرت إلى الآفاق ترقبه، عاش الحالم مع عشيقته التي يهوى، والود منه طار إليها من غير أجنحة وارتقى..
والعطر فاح في الآفاق منتشراً وباح بشوق للحبيب وهفا، فانتشى الحالم... وبين سَحرها ونَحرها غفا..
في المنزل، استقبلته أمه بابتسامة، وهي تخبره بما رأت من جمال العروس التي ستخطبها له، وتحدثه عن حُسْنها ودلالها... وعن سِحْر المُحيّا ودماثة الخُلُق والنسب الذي يُرتضى... وهو كان في الجسد معها، واللسانُ لا ينطق بغير نعم أو بلى...
ولما لم تجد منه رداً سألت: بُني، ماذا دهاك؟ أين أنت من كلامي يا فتى؟!!
أجابها والقلب مأسور بحب التي عاش معها أروع ذكرى: أماه لست راغباً في التي تَسعيْن لخطبتها وليست الفتاة التي أهوى، إن فؤادي قد تعلق بغيرها ولست بخاطبٍ إن شئتِ غيرها...
ولم يكن من الأم التي تسعى لسعادة ابنها إلا أن توافق على ما أراد وتسارع للسؤال عن التي غيّرت حال ابنها، عن العروس التي أسَرتْ فؤاده وفي حبها هوى...
غير أنه ما باح لها بسرِّه واعتذر لها، لأنه يعرف أنه إذا أخبرها لن ترضى, وقال لها يداعب خاطرها: أماه، بعد حين من الزمان ستكون حكايتي قصة تُروى، وستزفين ابنك عروسًا لمن أحبها وعشقته, وسيكون لي من رضاك يا أماه ما يبتغي الفتى من المنى...
علم أنه لو مد اليمين لخطبتها لحال بينهما زمان الأسى ولفرّق بينهما قهر الظلم ومضى.
لقد عزم على خِطبتها، وحدّد لذلك الموعد، فإلى متى سيبقى يعيش في لوعة الشوق وحرقة البعاد؟!
على حدود منازلها وقف، وهو يحمل مهرها, والروح تشتاق لتعانقها, والود منه قد سبق الزمان إليها، يناديها: أيا ساكنة الفؤاد أبصريني وأمدّيني بالقوة واحضنيني...
وانطلق مع رفاق العشق للأرض التي أحبوها, يتسابقون للوصول إليها... وهناك على حدود الوطن المقيّد بكلاليب قهر الظلم والعدوان، كان اللقاء وكان العناق وكان للعاشق قصة تُروى على مر الزمان...
ها هي ذرات الفؤاد تمتزج بتُراب الوطن المسلوب قهراً، وتعانق هواه المأسور، بعدما أصاب مغتصب محبوبته من أصاب وقتل منهم من قتل... وسهم الغدر اخترق الصدر الذي حمل الحب والعشق للوطن.
ها هي اللحظة التي كان يرقبها ومن فوق التلال يناجيها، ويراقب عدوّه يرتع في روابيها، هي اللحظة التي حلم أن يكون بين سحرها ونحرها, والدمع من مآقيها أنهاراً تغسل وجهه الباسم ويغرق فيها جسده الطاهر عشقًا...
وضمّته الأرض التي عشقها فهامت به وهام بها...
مع أوراق الخريف المتناثرة، رحل العاشق الحالم عن عينَيّ أمه التي تمنت رؤيته عروسًا، وهي تزغرد... فهذا يـوم عرسك يا ولدي، وكلماته ترن في أذنها: «... ستزفّين ابنك عروسًا لمن أحبها وعشقته, وسيكون لي من رضاك يا أماه ما يبتغي الفتى من المنى...».
زُفََّ العروس الذي كان يهيم عشقًا، زُف إلى جنان الخلد تستقبله الحُور بأبهى حُلَلها، والثغر ضاحك يلاقيها..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة