الفصل الأخير
شقَّتْ خيوط الشّمس الخجولة طريقها نحو الوديان والتلال معلنةً انبلاج الصّباح، وسَرَتْ نسائمه العليلة لتدغدغ جباه الحالمين الرّاقدين على الأسرّة، وبينما زادت هذه النّسائم من غفوة الحالمين الرّاقدين، زادت في الوقت ذاته من حماس الحالمين اليقظى الذين فضّلوا ملاحقة أحلامهم على أرض الواقع عوضاً عن مشاهدتها وهي تمرّ مرور الكرام عبر خيالهم. وكان من هؤلاء الحالمين اليقظى شابّ انكبّ على كرّاسته يدوّن فيها ما حاكه خياله من نسيجٍ ملوّن بالصّور والبيان وما جاد به قلبه من خواطر ومشاعر.
كانت غرفته أشبه بالقبر بضيقها وظلمتها ووحشتها، إلا أنّها كانت جنّته وملاذه الآمن والوحيد. ففيها يخطّ يَرَاعُه أجمل الكلام، وفيها تتبلور أفكاره وتُصقَلُ مداركه، ويستنير فكره حين يغوص في محيط أفكارِ أشخاص مرّوا في هذه الدنيا ورحلوا وظلّت مآثرهم خالدةً بين دفّتي كتاب. لطالما أراد أن يكون كذلك، أديباً عظيماً يخاطب العقول والقلوب فيأسِرها، وكذلك أراده والده أن يكون، ولم يكن يمنعه من الوصول إلى هذا المراد سوى بضع وريقات صفراء.
لقد كانت هذه الوريقات الصّفراء الفارغة جُلّ أمله ومركز فكره، فكلّ شيءٍ متوقّفٌ على ملئها وإتمام الفصل الأخير في روايته التي عمل عليها جاهداً لمدّة أربع سنوات. كانت حماسته لإنهاء الرّواية كحماسة فرس أصيل أبصر نهاية المضمار فاجتهد وعَدَا بسرعة، فلم يكن ينام من اللّيل إلا القليل ولم يكن يشغله شيءٌ عن كتابته في النّهار. وحين يحوم أولاده الثلاثة حوله منتظرين أن يجود عليهم بجزءٍ من وقته أو يداعبهم كما يداعب سائر الآباء أطفالهم، يضمّهم إلى صدره ويقول: "غداً يا أحبابي، عندما أُنهي كتابي، سنصبح أثرياء ولن تتمنّوا شيئاً إلا وسترونه أمام ناظرَيْكم، أمهلوني بعض الوقت فقط، وسَتَرَون أنّ ما أفعله يستحقّ الانتظار." انتظر الأولاد... وانتظرت الزّوجة... وانتظر الأهل... وانتظر الحيّ بأكمله عودة شابّ غيّبته طموحاته عنهم... وطال الانتظار حتّى امتلأت الأوراق الصّفراء أخيراً وأعلن بأن روايته جاهزة للنشر. ودّع أهله ووصل إلى العاصمة بعد مشقّة وراح يدور في شوارعها باحثاً عن ناشرٍ يتكرّم عليه بنشر كتابه. وكم كانت عسيرةٌ تلك المهمّة! فمن سيرضى بنشر كتابٍ لشابٍّ مغمور؟؟
حالفه الحظّ في النّهاية ووجد ناشراً اشترى منه حقوق الملكيّة الفكرية مقابل ثمنٍ بخس وتكرّم عليه بنسبة ضئيلة من الأرباح التي قد يجنيها من المبيعات. اتّصل بأهله بعد أن حصل على المبلغ الأوّل حاملاً البشرى، انتظر الأهل وصوله من العاصمة بفارغ الصّبر، فما العيش الرّغيد بنظرهم إلّا بتواجده بينهم قلباً وقالباً.
جلس ينتظر الحافلة، فسرح بخياله نحو الأيّام الجميلة التي ستستقبله، ولكنَّ الحافلة فاتته، فقفز من حيث انتظر آنفاً كي يلحقَها. وصادفت قفزته وقت مرور سيّارةٍ مسرعةٍ من الاتّجاه المقابل.
تناثرت الأوراق الصّفراء الملطّخة بالدّماء حول جسدٍ مسجّى... لتكونَ الفصل الأخير في حياة كاتبها!!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!