كاتبة
العُجْبُ... داءُ القلب العُضال!
هو داءٌ مُهلك، ومرض قلبي مدمّر، وآفة من أخطر الآفات التي تُصيب كثيراً من الناس، فتجثم على قلوبهم وتترعرع فيها حتى تنخرها، فتسلبها الفضائل وتُكسبها المذامُ والرذائل.
العُجب هو الإحساس بالتميّز والافتخار، واستعظام النعمة والركون إليها، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنْعِم عزّ وجل.
وعرّفه ابن المبارك بعبارة موجزة فقال: أن ترى عندك شيئاً ليس عند غيرك...
إن إعجاب المرء بنفسه من أعظم المهلكات بوصف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العُجب باب إلى الزهوّ والغرور، ووسيلة إلى الكِبْر والفخر، وازدراء الناس وغمط حقوقهم، وفي ذلك شرٌّ عظيم وعذاب أليم، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مهلكات: شُحّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه».
إن العُجب والنظر إلى النفس بعين الكمال والتعالي على الناس بالعلم أو الجاه أو المال أو النسب أو الجمال هو آفة العقل وغاية الجهل، والقلوب جُبلت على بُغض من يتعالى عليها، وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الخُلُق الذميم، من انتقام الله العاجل والآجل في حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «بينما رجل يمشي في حُلّة تعجبه نفسه، مُرَجَّل رأسه، يختال في مِشيته، إذ خسف الله به؛ فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
وتبدو خطورة العُجب عند نسيان المرء ذنوبه، فلا يُحدِث لها توبة، بل يستعظم أعماله وطاعاته فيَمُنّ بها على خالقه، فيغترُّ بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعقابه، فلا يسمع نصح ناصح، ولا وعظ واعظ، يغتَرُّ بالعمل الصالح، لظنه أنه قد فاز واستغنى، وهذا هو الهلاك الصريح.
وإذا كانت الذنوب مهلكة، فإنها قد تكون رحمة بصاحبها حتى تُخلِّصه من العُجب الذي هو الهلاك حقاً، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار عن أنس رضي الله عنه: «لو لم تُذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العجب»، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «لو كان العجب رجلاً لكان رجل سوء»، ويقول علي رضي الله عنه: «إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين». وكان الإمام القُدوة يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: «إياكم والعجب، فإن العجب مَهْلَكة لأهله، وإن العجب ليأكل من الحسنات كما تأكل النار الحطب».
وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ العِظة والعبرة والذكرى، والقدوة والأسوة الحسنة للصحابة والتابعين، والمؤمنين الطائعين، فلم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولا الغرور إلى قلوبهم، لأنهم اقتَدَوْا بنبيهم في دوام الافتقار إلى الله، والذل بين يديه واستمداد العون منه، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول: «لو أني شجرة تعضد»، أما سيدنا عمر رضي الله عنه فيسأل حذيفة: «هل سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟» وهو القائل: «رحم الله امرءاً أهداني عيوب نفسي».
فيا أيتها المعجَبة بنفسك، الغافلة عن ربك، أَفِيقي من سَكرتك، وأنعمي النظر فيما جاء على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم، وخالفي نفسك ودعي عُجبك، واذكري قبرك فإن عليه عمرك، فمهما تعاظمت وانتفشت فلن تخرجي من كونك مخلوقاً من ماء مهين، وعما قليل ستصير إلى جيفة قذرة وعظام نَخِرة، وتراب يُداس بنعال وَسخة، فإن كنت تمنّين على الله بعبادتك وطاعتك وعملك، فلا تظنّين أنك بمَأمن من عذاب الله ونكاله، فكم من سراج أطفأته الرياح الرياء، وكم من عبادة أفسدها العُجب، فكيف تعجبين بعملك ولا تدرين بماذا يُختم لك؟ ولا تدرين ماذا يخرج من كتابك وحسابك يوم القيامة؟ فاسمعي لقوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)...
ويا من اعتزَزْتِ بمالك وغِناك، وحاولتِ التميّز عن غيرك فما أجرأك على ربك، وما أجهلك بنفسك... ألم تعلمي أن المال عُرضة للقبض بعد البسط؟ وللسلب بعد العطاء، فمكر الله لا يُؤمَن ونقمته قريبة مهما أمهل، انظري إلى مَن انتفخ وقال: (أَناْ أكثَرُ مِنْكَ مالاً وأَعَزُّ نَفَراً) فكانت العاقبة الذلّ والهوان في الدنيا والآخرة!
وأنتِ يا من اعتراكِ العُجب بجمالك، انظري إلى باطنك نظر العقلاء، ولا تنظري إلى ظاهرك نظر الأغبياء، فأنتِ لم تصنعي شيئاً من ملامحك الوسيمة: (وما بِكُمْ مِنْ نِعْمةٍ فمِنَ الله)، وعليكِ أن تعلمي أن الجمال الحقيقي هو معدن الإنسان ومناقبه الحميدة، والجمال الذي لا فضيلة فيه كالزهر الذي لا رائحة له، وأنّ الجمال يزول، وأقل مرض يُضعفه ويذهب برونقه، وكل يوم يفعل الزمان فعله بالجسد، والله تعالى لا ينظر إلى الصور والأشكال ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.
ويا من أُعجبتِ بعلمك وافتخرت بشهاداتِكِ الجامعية، وألقابك الفخمة، إنّ الغرور قد نفخ برأسك فلا تكوني مثالاً سيئاً وقدوة رديئة، فليست العبرة بالوثائق والأوراق الموقّعة، ولا تفكري في كثرة مَنْ دونك ممن هو أقل علماً، ولكن انظري إلى من هو أكثر منك علماً وخوفاً وخشوعاً لله عز وجلّ، واعلمي أن الله الذي منحكِ هذه المواهب والقدرات قادر على أخذها بعزته وقهره وجبروته، ولو ملأ علمُك بين السماء والأرض مع العجب ما زادكِ الله به إلا نكداًً ونقصاً، فحق الله عليك أن تكوني شاكراً لفضله غير جاحدة بغروركِ وعُجبكِ، وتذكَّري قول الله تعالى: (لئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ * وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
وأنتم يا أهل العلم والإيمان والدعوة إلى الله، احذروا العُجب وجانبوه، فذلك لكم أليَق وبكم أحرى وأجدر، حاسبوا أنفسكم لتطمئنوا إلى أن مشاعر العُجب لم توقظها طلاقة لسان أو حُسْن بيان أو استحسان وإطراء، لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما خلص لوجهه الكريم.
وأنتِ أيتها الداعية المسلمة عليك بالتواضع والاعتدال في المظهر والملبس بلا سرف ولا خُيَلاء، وعليك بأخذ الزينة الحلال دون زيغ أو انحراف، أو تشامخ واستعلاء على أخواتك المسلمات، وكوني كما قال الشاعر:
إنّ كريم الأصل كالغُصْن كلّما
ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن