من الرسوم المسيئة.... إلى الأفلام القميئة
في توقيت حساس جداً، وفي زمن التغيرات الإقليمية والدولية، يأتي هذا العمل الأرعن المتثل بالشريط الذي أراد صاحبه منه توصيل رسالة إلى المسلمين والعالم بأنه يبغض الإسلام وكل ما يمت إليه بصلة، وبداهة هو يبغض رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي حقق الله تعالى على يديه كل النبؤات التي بشر بها، في الوقت الذي عجزت فيه المسيحية عن تحقيق نبؤاتها التي خطتها أيدي الكتبة. والذي بدأ نور التوحيد الذي بشَّر به نبيا محمد صلى الله عليه وسلم يطمس ظلمة الشرك والضلال التي خيمت على العالم ردحا من الزمن.
لقد حاول العالم جاهدًا، وعلى مدى عقود، محوَ كل ما يتم إلى الإسلام بصلة من الوجود، بدءً من جحافل الفرنجة الذين ساحوا في بلادنا على مدى قرنين، ومرورا بالتتار الذين هزمناهم مرتين: عسكريا في عين جالوت، وفكريا عندما أعدناهم إلى بلادهم حاملين لعقيدة التوحيد ولواء الدعوة إلى الله تعالى. وصولا إلى إعلان إلغاء الخلافة الإسلامية، وتقطيع المنطقة إلى دويلات، ثم إلى هذا الربيع العربي المبارك الذي يشكل نقطة تحول أساسية في مجريات الصراع بين الإسلام وبين الحاقدين عليه.
وسواء كان هذا الربيع العربي عفويا، أو كان مدبَّرا على ما يراه البعض، فإنّ ما لا شك فيه أن الإسلام السياسي استطاع أن يطوي صفحة مهمة من المواجهة بينه وبين خصومه، تمكن فيها من الثبات وكسر موجات الهجوم المتتالية عليه، ثم انتقل إلى أخذ زمام المبادرة قياما بواجب إعمار الأرض الذي أناطه الله تعالى ببني البشر، هذا الإعمار الذي يصعب أن يتحقق على وجهه بعيدا عن العبودية لله تعالى.
نعم.. في هذا الوقت الذي بدأت منطقتنا تشهد عوداً متزناً إلى الدين والشريعة، وإلى ريادة المجتمعات تحت عنوان ( العدالة الإجتماعية )، والذي بدأنا نشهد فيه تحولا في طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب: من الصراع إلى الحوار والتفاهم، تأتي هذه التصرفات الرعناء: فعلًا وردات فعلٍ، محاولةً ضرب هذه الحالة من التفاهم الدولي التي يمكن أن تؤمن نوعا من الاستقرار في المنطقة، وقطعَ الطريق أمام ما يرونه: تقدما ملموسا للإسلام في قلوب الناس وعقولهم شرقا وغربا، والعودةَ بالعلاقة بين الشرق والغرب إلى المربع الأول: مربع الصراع.
وهذا الحدث الأخير المتمثل بالفيلم المشين بحق صاحبه، وحاشا أن ينال من علو مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم شيئا، قد يكون صحيحٌ أن الدولة الأمريكية ليست مسؤولة عنه مباشرةً، إلا أنها لا يمكنها التنصل من المسؤولية الأخلاقية، فالنظام الذي تسمح قوانينه بالتعرض لمعتقدات الآخرين يكون مسؤولا عن التصرفات التي تقع تحت هذا السماح، وعليه فليس من المنطقي في شيء أن يصدر عن وزيرة الخارجية الأمريكية أن النظام الأمريكي لا يستطيع أن يمنع مثل هذه التصرفات بدعوى أنها من الحرية الفكرية والشخصية، لأننا حينها سنقول لها: وحكوماتنا أيضا غير مسؤولة عن ردات الفعل التي حصلت لأنها حريات فردية.
فإذا كان جوابهم: الحرية لا تعني التعدي على الآخرين والإضرار بهم، يكون جوابنا: نعم، وبالتالي عليكم منع التعديات علينا الصادرة من مواطنيكم والتي تضر بديننا ومعتقدنا انطلاقا من قناعاتكم هذه. وإن كان الأمر في قناعاتنا أبعد من ذلك ليصل إلى حالة العداء والبغض الذي يكنه الغرب لدين الشرق وهويته.
ومع ذلك فإننا نقول: قد نكون غير مصيبين في تصوير الغرب مبغضا للإسلام إلا أنّ الذي يمكن أن يبلور عدم صوابية هذا التصور هو أن يَسِنَّ الغرب قوانين تُجَرِّمُ التعرض لمعتقدات الآخرين ومقدساتهم، فليست أكاذيب المحارق النازية بأولى من حقائق الإيمان وقدسية الأنبياء في المحافظة عليها. فكيف وأنَّ الغرب يرى في كل مرة كيف أن التعرض لعقائد الآخرين يهدد مصالحه ويعرضها للخطر الشديد، إلا إذا كان هذا هو المطلوب!!!
أما فيما يتعلق بردات الفعل على هذه الإساءات الصادرة عن المسلمين الغيورين على دينهم، المعظمين لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فإن فيها الحق والباطل: فالحق الذي فيها أنه لا يمكن لمسلم أن يسمع ويرى الإساءة لدينه ثم لا يحرك ساكناً، وإلا كان شريكاً في الإساءة مما يعرضه للخروج عن الملة.
وأما الباطل الذي اعتورها فهو ما نراه من صدامات مع أبناء بلدنا وديننا من الشرطة المحلية، الناجم عن محاولات التعرض لمصالح الغرب بالطريقة التي نراها، حتى وصل الأمر في ليبيا إلى قتل السفير الأمريكي الذي كان يعتبر من أهم الداعمين لجهاد الشعب الليبي، سواء كان هذا من باب مصالح بلاده، أو من أي باب آخر، إلا أنه ساهم في رفع الظلم عن الشعب الليبي، فلا يعقل أن تكون حياته ثمنا لعمل لا علاقة له به، بل ولا يرضاه.
والأصل أن يقتل الذي قام بالعمل، فالقتل يجب أن ينصب على الذين صنعوا الفيلم وموَّلوه ونشروه.
كما أنه لا يجوز أن يخرج الناس على الانتظام العام بهذا الشكل، ويحولوا بلادهم إلى بؤر توتر لا تخدم الدين في شيء. ويبدو أننا لم نتعلم من قضية الرسوم المسيئة لذاك الأفاك الهولندي، بل يبدو أن أعداءنا قد عرفوا كيف يدفعوننا للتصرف وفق مصالحهم ونحن نحسب أننا نحسن صنعا.
والسبب الأساس في هذا أننا لا نواجه الإساءات من خلال التوجيهات القرآنية والنبوية، وإنما من خلال ثورة الغضب العارمة التي تعترينا والتي لا يصدر عنها عادة تصرفات سليمة، ثم بعد ذلك نندم حيث لا ينفع الندم.
ندمٌ لأن الكثيرين من الذين جرفتهم ثورةُ الغضب يظهر لهم بعد فترة أن أيادٍ خفية تلاعبت بعواطفهم ودفعتهم بالاتجاه الخاطئ بينما القرآن الكريم يقول لنا وبكل وضوح وبيانٍ كيف تُواجَهُ مثل هذه الإساءات، منها قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ .
فبين الله تعالى أنه ما من نبي إلا وكان له أعداء يفترون عليه ويحاولون النيل منه، وأنّهم أعجز من أن يصلوا إلى ذلك، ثم بيَّن سبحانه ما لهذا العداء من حكمة تتمثل بكشف المنافقين الذين تعجبهم الإساءة للأنبياء والمرسلين، وبالتالي تستهويهم حملات العداء للدين، فيتبنون هذه التصرفات، ويتصرفون من خلالها، الأمر الذي يؤدي إلى فضحهم.
ومن أساليب مواجهة هذا العداء قول الله تعالى: :﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾.
وهذه الآيات فيها نوعان من العداوة: عداوة اللسان التي تتمثل بالأذى الكثير الذي يُسْمِعُه هؤلاء الأعداء إلى المسلمين، والواجب فيه ما قاله الله تعالى: ﴿ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾، وهذه الآية مدنية. وموضوع الفيلم يندرج تحت هذا النوع من الأذى.
والنوع الآخر من العداوة عداوة الأذى الجسدي والمقاتلة، وهذا يحتاج إلى موازنات فقهية يقررها أهل العلم الكبار الذين يشكلون المرجعية في الأمور المصيرية التي تواجه الأمة.
كما أن هذه الآيات فيها التوجيه إلى ضرورة لزوم العبادة لله تعالى بامتثال أوامره قدر الإستطاعة وبالانتهاء عن نواهيه، وبعدم التصرف تصرفاً يخرج عن نطاق الشرع.
بناءً على هذا كله فإن ردات الفعل التي صدرت عن أبنائنا في مصر وليبيا واليمن خرجت، في كثير منها، عن منطق الشرع، وأخشى أنها قد استغلت من جهات لها مع أمريكا حسابات أرادت تصفيتها في عرينٍ قد يُحْسَبُ مستقبلا على أمريكا بشكلٍ أو بآخر. أو أطراف متضررة من السلطة الجديدة، حاقدة عليها، تستغل كل فرصة لإثارة القلاقل والتخريب.
من هنا فإننا نربأ بأبنائنا الغاضبين بسبب ما يتعرض له ديننا من حملات أن يكونوا وقود فتن.
فهذه الإساءات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.
وهذه الإساءات كلما اشتدت دلت على اشتداد عود الإسلام الذي بات يبشر بأنه الدين المهيمن في العالم بإذن الله تعالى.
والواجب حسن إدارة الأزمة لتحويلها من نقمة إلى نعمة، ولا يمكن أن يكون هذا بعيداً عن الأحكام والضوابط والقواعد الشرعية.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن