أصل وصورة
كم شقً عليها أن تراه رابضاً على سريره وقد كان منذ فترةٍ مفعماً بالحياة مشحوناً بالنشاط..
كم عزّ عليها أنْ تشعر أنَّ أباها حيٌّ مقيّدٌ بأكوامٍ ترقد في دمه وتهدّد حياته بالخطر...
لم تستطع (هانية) أن تحبس دموعها التي أبَتْ إلاّ أنْ تعبّر عن شدَّة أساها وحزنها حين دخلت غرفته، وابتلعتْ غصّة كالشَّوك ثمَّ استجمعت قواها لتهمس في أذن والدها:
هانية: كيف حالك اليومَ يا أبي؟
- الوالد: الحمد لله على كُلِّ حالٍ يا بُنيّتي...
وبرغم أنّ هذه العبارة كانت مألوفة لديها، إذ لازمت أباها طوال سنوات عمره، حُلوها ومُرِّها، حين كان يحمدُ الله على كلّ حالٍ، إلاّ أنها اليوم فتحت أمامها باباً عريضاً منَ التساؤلات.
هامت للحظاتٍ وهي تقف فوقَ رأس أبيها تُقلّبُ صفحات مشوارها، وقت كانت تنعم بظلِّ ظليل في كنف أبٍ رحيم كريم...
أحسّت (هانية) أنّ غماماتٍ سوداً ثقالاً سوف تعصف بها فتقتلعها من هنا وتزرعها في أرضٍ جدباءَ مقطّعة الأوصال، فانسلّت من حُجْرته كشبحٍ أصابه شعاع الشمس فأغمض عينيه وهرب..
- هانية: أجل.. هذه هي الحقيقة، فلِمَ أهربُ منها..؟ هذا قدرُ الله الذي لا مردّ له.. لا أريدُ أن أكون نقطة ضَعْفه، لا أريد أن يراني محطَّمة ملقاةً على ما بَقيَ من عُمُره...
كانت تقنع نفسها بأنها ستصمُدُ لأجله، ولأنه كان يسعى دائماً ليراها رزينةً متماسكة..
وبينما كانت تحسم أمر اتّصافها بكلّ خصلةٍ تشدُّ من عزم أبيها وترفع من معنوياته، فاجأها سفرٌ زمنيٌ إلى الأمس، عبر خظّ ذكرياتها المتأججة، فارتحلت وهي تحمل حقيبةَ استنتاجاتٍ كانت غائبة عنها..
كان كلّما جلست معه يذكّرها بأنّ للإنسان أحوالاً تعتريه، فتارة هو قويّ الإيمان، قاصدٌ بإحسان، صافي الذهن مرتاح البال، وتارةً أخرى متأرجح اليقين مشوّش التفكير، تختلُّ عنده بعض الموازين... ولطالما ذكّرها أن المرء مرهونٌ لحاله، فإما أن يكون مُقبلاً بقلبه فيغلب على جوارحه الإذعان للحقّ والاستجابة له، وإمّا أن يكون مُدْبراً، فعليه أن يروّض نفسه حتى لا تسوقه إلى ما لا تُحمد عقباه.
لَمْ تفكّر (هانية) قبل اليوم بدقة هذه العبارات التي طالما سمعتها منه وهي لا تدري ماذا كان يقصُد من ورائها!!
لمَ غاب عن خاطرها بأنّه كا يخطط لمستقبلها ويرسم لها درباً خالياً من الشوك؟!
تذكَّرت نصائحه وتوجيهاته لها، وطيبة قلبه حين كانت تتملَّص من أمره بقُبلةٍ أو بابتسامةٍ تبادره بها لتخفّف عن نفسها وطأة عتابه وأحياناً قصاصه..
قالت محدّثةً نفسها: كم كان أباً جديراً ومتمتعاً بكُلّ مواصفات هذا اللقب العظيم... هاهي الأحوال تتغيّر، فمن منصب الإدارة التي كان يتفوّق لها على كل أفرادِِ عائلته، ومن موقع الشدة التي كان دقيقاً في توقيتِ ممارستها... اقتضت حكمة الله أن يتنحّى في غرفة لا يبرحها مهما قَست الظروف على أهل بيته.. حتى أصبحنا كلّنا أسرى لمرضه، كُلّما نزلت بنا نازلة، حاصرنا أنفسنا بعيداً عن مسمعه ومرآه، حتى لا نضغط عليه ونكلّفه ما لا يطيق.. لكننا لم نشعر يوماً بأنّ هذه الحال التي كتبها الله عليه قد أثّرت على صحّة إيمانه ويقينه، فلا زال هَرماً يشمخُ بالحكمة وحُسْنِ التدبُّر..
ثم عادت من سفرها لتجدَ في أعماقها شوقاً يلحُّ عليها لرؤيته والاطمئنان عليه، ففتحت باب عرفته بكلّ هدوء واتزان، ووقفت أمامه وانحنت بصمود ثمّ طبعت على جبينه قُبلة تقدير وسألته عن حاله، فأجابها كما عهدته دائماً وبكلِّ صفاء:
- الحمد لله على كل حالٍ لا يا ابنتي...
لكنّها هذه المرة أكّدت له بأنها ستكون صورته بكلّ نقائها وثباتها وعزمها، مهما تبدّلت الأحوال..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن