الدروس المستفادة من صلح الحديبية
لماذا كان صلح الحديبية فتحًا مبينًا؟
تعالَوْا -في البداية- ننظر إلى معاهدة صلح الحديبية بعد أيام من حدوثها، وتعالوا نرى الخير الذي جاء من ورائها. وأصدق تصوير لها وأفضل تعبير هو ما اختاره لها رب العالمين I: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. هذا الفتح المبين له دلالات كثيرة، نذكر منها عشرة أمور:
1- وضوح إيمان الصحابة
ويكفي أن الله أنزل فيهم قرآنًا، قال :{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].
فالله شهد لهم بالإيمان، وزيادة الإيمان بعد هذا الحدث العظيم صلح الحديبية.
2- اعتراف قريش بالمسلمين كقوة ودولة تعاهدها
وهو من أهم الأمور، ومن أعظم ثمرات صلح الحديبية. وهذا الاعتراف جاء من قريش أعظم قبيلة عربية، فهذا يعتبر الميلاد الرسمي لدولة الإسلام في الجزيرة العربية. وبعد هذا الاعتراف من قريش بدأت معظم القبائل الموجودة في المنطقة تعترف بالمسلمين، بل بدأت الدول المجاورة تعترف بالمسلمين كدولة، فهذا من أعظم ثمرات صلح الحديبية، وكل الآثار التي سوف تأتي بعد ذلك مترتبة على كون المسلمين أصبحوا دولة حقيقية معترف بها في المنطقة.
3- انتشار الإسلام في الجزيرة العربية
فالذين أسلموا في هاتين السنتين بعد صلح الحديبية وإلى فتح مكة من سنة ستٍّ أو أواخر سنة ست إلى أواخر سنة 8 من الهجرة، أكثر من الذين أسلموا خلال تسعة عشر عامًا من الدعوة الإسلامية، استغرقت ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة، وست سنوات في المدينة المنورة إلى أن أتى صلح الحديبية؛ فمن أسلم في تسع عشرة سنة سابقة لا يتعدون ثلاثة آلاف، ولكن من أسلم من أواخر سنة 6هـ إلى فتح مكة حوالي سبعة آلاف، فقد دخل الرسول بجيشه إلى مكة المكرمة وهم عشرة آلاف مقاتل غير النساء والصبيان الذين كانوا معه، وانظر إلى الفتح المبين، في سنتين فقط تضاعف العدد، ووصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فهذا حقًّا فتح مبين.
4- عودة مهاجري الحبشة إلى المدينة المنورة
بعد صلح الحديبية مباشرة اطمأن الرسول إلى استقرار الأوضاع في المدينة المنورة، فأرسل إلى المسلمين في الحبشة، فبعض المسلمين قد هاجروا إلى الحبشة في العام السادس من البعثة النبوية، وظلوا في الحبشة سبع سنوات كاملة حتى الهجرة، وست سنوات كاملة من أيام المدينة المنورة، يعني ثلاث عشرة سنة كاملة في داخل الحبشة لم يرسل إليهم رسول الله ، ولكن بعد صلح الحديبية مباشرة وجد رسول الله أن الفرصة أصبحت مواتية لقدومهم من الحبشة؛ فأرسل إليهم عمرو بن أمية الضمري ليستقدمهم، وبالفعل جاءوا مباشرة، ووصلوا إلى رسول الله وهو في فتح خيبر كما سيتبين لنا إن شاء الله.
وبهذا أضيفت إلى قوة المسلمين في المدينة المنورة قوة المسلمين الذين كانوا في الحبشة بعد غياب ثلاث عشرة سنة عن رسول الله .
5- قدوم المسلمين من القبائل المختلفة الأخرى
المسلمون في كل قبائل العرب بدءوا يتحركون منها إلى المدينة المنورة، قبل هذه اللحظة كان يأمر المسلمين أن يمكثوا في قبائلهم ولا يأتوا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم من ناحية يقومون بالدعوة في قبائلهم، ومن ناحية أخرى -وهذا أهمُّ- كان الوضع في داخل المدينة المنورة غير مستقر، أما الآن بعد صلح الحديبية فقد فتحت الأرض للمسلمين، فزادت قوة المسلمين بعد هذا الصلح.
6- تعاهدت قبائل كثيرة مع رسول الله
وما كانت هذه القبائل تجرؤ على هذا الأمر قبل هذا الصلح، وأول هذه القبائل قبيلة خُزَاعة، وبعدها بدأت القبائل تتوافد على المدينة المنورة.
7- بدأت المراسلات النبوية من رسول الله إلى عموم زعماء العالم في كل مكان
فقد راسل كسرى فارس، وقيصر الروم، وزعماء العالم في كل مكان يدعوهم إلى الإسلام، ويدعوهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد؛ أما قبل صلح الحديبية فما أرسل رسول الله رسالة واحدة إلى زعماء العالم، لكن من الواضح أن هناك تغيرًا واضحًا في مسار الدعوة وانطلاقة عظيمة للإسلام بعد صلح الحديبية.
8- بدأ صناديد مكة وزعماؤها يفكرون جديًّا في الإسلام
ومن أوائل من أسلم بعد صلح الحديبية ثلاثة من أعظم قواد مكة، وأصبحوا بعد ذلك من أعظم قواد المسلمين: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي طلحة. وكان إسلام خالد بن الوليد إضافة هائلة إلى قوة الإسلام والمسلمين، وخالد بن الوليد ظل عشرين سنة تقريبًا في الكفر، وهو يحارب الإسلام والمسلمين، والآن بعد صلح الحديبية بدأ خالد بن الوليد يفكر جديًّا في أمر الإسلام، وأنعم الله عليه بنور الإسلام، وضم جهده إلى المسلمين. وانظر ما أتى على يده بعد ذلك من الفتوحات، وما أنزل الله من نصر عليه وعلى المؤمنين بعد إسلامه، وكذلك عمرو بن العاص ، ونعلم أن فلسطين بكاملها ومصر بكاملها فتحت على يد عمرو بن العاص ، فأبطال قريش بدءوا يتوجهون من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فهو فتح مبين حقًّا.
9- تفرغ رسول الله لليهود
فقضية خيبر كانت تشغل ذهن رسول الله، لكنه لم يكن يستطيع أن يتوجه إليهم بقوته وجيشه مع وجود الحرب والخلافات المستمرة بينه وبين قريش، بعد صلح الحديبية أَمِن جانب قريش، ومن ثَمَّ انطلق إلى خيبر.
10- هزيمة قريش هزيمة نفسية قاسية
جهَّزتها نفسيًّا للتسليم التام لرسول الله ، وكانت بدايات تفكير القرشيين بالتسليم لرسول الله وفتح أبواب مكة في صلح الحديبية.
وهذا هو الأمر العاشر، فتلك عشرة كاملة.
دروس مستفادة من صلح الحديبية
بعد كل هذا الخير وكل هذه الآثار الحميدة التي رأيناها في صلح الحديبية لا بد لنا من وقفة، وصلح الحديبية يحتاج منا إلى وقفات كثيرة، ولكن سنقف على ثلاث وقفات مهمة:
أولاً: اليقين في أن شرع الله لا يأتي إلا بالخير في الدنيا والآخرة
هل كان الصحابة يرون كل هذا الخير؟ والجواب: لا؛ فالصحابة لم يكونوا يرون هذا الخير، بدليل ما رأيناه من عمر بن الخطاب ، ولكن هذا هو الشرع، فما حدث في صلح الحديبية هو الشرع بدليل قوله : "إنه ربي ولن يضيعني أبدًا". ومع ذلك لم يكن الصحابة يرون الخير في هذه النقطة الشرعية في ذلك الوقت، وهذا أمر غريب.
وإذا كنا نلوم على الصحابة في أنهم وقعوا في هذا الأمر مرة في حياتهم، فلا بد أن نعترف أننا وقعنا فيه مرارًا. وما أكثر ما سمعنا حكم الشرع في قضايا كثيرة، ويكون ساعتها الحكم مباشرًا وواضحًا جدًّا ولكننا نُقدِّم رأينا!! ففي بعض الأوقات نرى الأب والأم يتركون الابنة بلا حجاب لعلَّةٍ في أذهانهم هو أن تتزوج البنت، ولو حُجِّبت في اعتقادهم أن هذا سيؤخِّر زواجها، فيأمرونها أن تسير من غير حجاب، وفي هذا مخالفة صريحة للشرع؛ فهم يرون الخير في غيره فيقدمون رأيهم ويلغون في حياتهم حكم الشرع في هذه الجزئية. وقد نرى استثماريًّا كبيرًا يقترض بالربا حتى يقيم مشروعًا كبيرًا وهو يعلم حكم الشرع تمامًا، ثم يخالفه بُغية البحث عن خير، وقد يرى أن الخير في مخالفة الشرع في هذه الجزئية. ونرى دولة تبيع الخمور حتى تنشط السياحة، ونرى حاكمًا يوالي دولة قوية، وإن كانت معادية للإسلام؛ لأنه يرى أن هذا أصلح لحياة الناس، ولا يرى الخير في حكم الشرع.
فهذه القضايا نراها كثيرًا جدًّا في حياتنا، ولكن الخطير في حياتنا أننا نفعل ذلك طلبًا للدنيا، وليس طلبًا للآخرة، أما خطأ الصحابة في قضية صلح الحديبية لم يكن طلبًا للدنيا قَطُّ، وإنما فعلوه طلبًا للآخرة، ليس هناك مصالح دنيوية فيما كان الصحابة يرجونه يوم الحديبية؛ فقد كانوا يريدون أن يدخلوا مكة لأداء عبادة العمرة، فهم لا يريدون الدخول للتجارة أو الحرب أو لمصلحة دنيوية، وإنما يدخلون لأداء عبادة العمرة، ثم يعودون بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وإن منعوا قاتلوا، والقتال كان خطيرًا لأنهم لا يملكون سلاح المقاتل، يعني كانوا معرّضين للموت، أي أنهم عندما عرضوا رأيًا مخالفًا لحكم الشرع لم يعرضوا ذلك إلا طلبًا للآخرة، وليس طلبًا للدنيا، ولو كانوا طلاّب دنيا لآثروا الرجوع حفاظًا على حياتهم.
ومن ثَمَّ فنحن نستفيد من صلح الحديبية بعد رؤية الخير العميم الذي نتج عنه أن نرضى بشرع الله ، ولا نقول: نقبل بشرع الله؛ وفارق كبير جدًّا بين أن نرضى بحبٍّ وبين الاقتناع، فإنه حتى لو كانت عيوننا لا ترى الخير فإننا على يقين أن الخير موجود، ولكننا لا نراه الآن، وقد نموت ولا نرى هذا الخير، وعلينا أن نكون على يقين أن فيه الخير، قال الله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وقال أيضًا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
فنحن نريد أن نصل إلى درجة التسليم الكامل لرب العالمين، قال الله في كتابه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
درجة التسليم معناها الرضا الكامل بحكم الله، وأن نوقن يقينًا جازمًا أن الخير فيما اختاره الله لنا. والصحابة قد تعلموا من درس الحديبية، فالصحابة رأوا الخير الذي حدث بعد صلح الحديبية، مع أنه في وقت الصلح لم يروا هذا الخير، ووقت مجيء أبي جندل بالذات لم يروا هذا الخير، فكانوا لا يرون إلا الشر، حتى عمر بن الخطاب فقد حاول قدر المستطاع بعد ذلك أن يكفِّر عن هذا الخطأ الذي حدث منه في يوم الحديبية، يقول: "فعملتُ لذلك أعمالاً"[2].
فعمل لذلك خيرًا كثيرًا للتكفير عن هذا الأمر، فيقول: "فما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به يوم الحديبية حتى رجوت أن يكون خيرًا".
واستفاد من الدرس بعد ذلك في كل حياته، حتى كان يقول معلِّمًا المسلمين: "أيها الناس، اتهموا الرأي على الدين".
فقد يكون لك رأيٌ في قضية من القضايا تشعر أنه أفضل من الحكم الشرعي، فاتهمْ رأيك وقدِّمْ حكم الشرع. ويقول : "فلقد رأيتني أردُّ أمر رسول الله برأي اجتهادي، فوالله ما آلو عن الحق".
أي كنت أبحث عن الحق، ومع ذلك كان الخطأ في رأيي، والصواب في حكم الشرع، وذلك يوم أبي جندل كما يقول عمر .
ويقول سهل بن حنيف نفس الكلام؛ لأنه كان حاضرًا لهذا الموقف، فيقول للمسلمين: "اتهموا رأيكم، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول لرددته".
أي لو كنت أستطيع أن أمنع رسول الله من أداء هذا الصلح لفعلت، ومع ذلك هو ينصح المسلمين بعدم فعل ذلك بعد أن رأى الخير في صلح الحديبية.
فكان هذا درسًا مستفادًا على قدر كبير من الأهمية، ولعله أعظم دروس الحديبية مطلقًا، وهو أن نوقن تمامًا أن شرع الله هو الخير لنا في دنيانا وفي آخرتنا.
ثانيًا: الثقة في القيادة
لأنه في بعض الأحيان تأخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها؛ فكثيرًا ما تكون الرؤية عند القيادة أشمل، وتحليل الأمور يكون بصورة أعمق، وقد تُطلع القيادة على أمور لا يراها الجنود، وقد تفكر في مصالح لا ينظر إليها الجندي، وقد تحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي، والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء، توازن بين وسائل تغيير الممكن، وتعرف معنى التدرج في التغيير، وتقدّر حجم المكاسب والخسائر.
كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس، أو المسلم المتلهف على رؤية الإسلام ممكَّنًا في الأرض ما بين يوم وليلة، والقيادة التي تدرك كل هذه الأمور قد تأخذ قرارات يراها الجنود أحيانًا مخيبة للآمال، أو يراها محبطة لنفسيته، أو يراها خاطئة من الناحية السياسية، أو حتى يراها الجندي مخالفة شرعية؛ وكل هذا قد يكون وهمًا لا صحة فيه، والرسول قَبِل بإعادة المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه، وهذه خطورة حقيقية ومع ذلك قَبِل؛ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة، وينظر إلى المفاسد مجتمعة، فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد، مع الإقرار التام بأن هذا الأمر مفسدة، ولكن المصالح أعلى، وهو لا يستطيع أن يمنع المفسدة فقَبِل بها، وعليه أن يختار بين المصالح الكثيرة ومعها بعض المفاسد أو أن يدفع بعض المفاسد ويضيِّع المصالح الكبيرة، فالأمر كان عنده واضحًا.
ولا شك أن الأمر يحتاج إلى حكمة، ويحتاج إلى علم، والموفَّق من وفقه الله. والرسول قد قبل بأمور لا يحبها بل يمقتها كل المقت، ولكن الواقع فرضها عليه، ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب، ثم تبين أن الخير كان في قراره ؛ فمثلاً الرسول قَبِل بفكرة عدم الرد على من آذى المسلمين ومن عذبهم، بل وعلى من قتلهم في فترة مكة، وكان هذا حكمًا شرعيًّا قَبِل به، وعموم الصحابة في ذلك الوقت قبلوا بذلك، ولكن بعض المتحمسين في ذلك الوقت من الصحابة لم يقبلوا وقالوا: لِمَ نُعطِي الدنية في ديننا؟ ولمَ لا نرد على المشركين ولمَ ولمَ...؟! ثم ظهر لنا بعد ذلك الخير في قرار الشرع، والخير في حكم الشرع، وهذا ما نسمِّيه (فقه المرحلة)، وفقه الموازنات. وكذلك تأول اليهود كثيرًا على المسلمين في أوائل عهد المسلمين بالمدينة، وكذلك تطاول اليهود على المسلمين في أوائل عهد المسلمين في المدينة، وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسَّر على أنها نقض للمعاهدة، ومع ذلك فالرسول التزم بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع، ليس هذا لضعف ولا لتفريط، ولكن لفقه المرحلة وفقه الموازنة.
وهكذا كان الوضع أيضًا في صلح الحديبية، وهكذا كان الوضع أيضًا في مواقف كثيرة في السيرة النبوية، بل لعلنا لا نكون مبالغين أنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قرارًا يخلو من أي سلبية؛ فالقضية قضية موازنات، وهناك كلمة جميلة لعمرو بن العاص -وهو مشهور بالحكمة- قال: ليست الحكمة أن تدرك الفرق بين الخير والشر، أو الفرق بين الحلال والحرام، ولكن الحكمة أن تدرك أيّ المنفعتين أعلى، وأيّ الضررين أكبر. هذه هي الحكمة، فالمهم في هذا المقام أن تدرك لكي تقوم وتسود وتُمكّن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، وقد يبدو فيها للناظر مخالفات شرعية، لكن المدقِّق والمحلل والعالم ببواطن الأمور سيجد أنها عين الشرع؛ لأنها أخف الضررين، فتقبل شرعًا ولا تُعَدّ مخالفة. ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد، ومن ثَمَّ يعذر القيادة، ويقدم لها النصح والإرشاد بأدب، ويقبل منها الأمر والتوجيه، وكل ذلك لا يمكن أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة، وإدراك كامل للعبء الثقيل المُلقى على أكتاف القادة، وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم.
ثالثًا: أن تلتمس القيادة لجنودها الأعذار في بعض المواقف
إذا كنا طلبنا من الجنود أن يعذروا القيادة في قراراتها، وأن تتصف ردود أفعال الجنود بالثقة في اختيار القائد، فإننا في الوقت ذاته نطلب من القيادة أن تعذر جنودها عند ظهور بعض علامات الغضب أو عدم الرضا من بعض القرارات غير المفهومة لعموم الناس، وأن يتسع صدر القيادة إلى استيعاب الجنود، وهم في حالة نفسية سيئة، وأن تقبل منهم بعض الأخطاء، وأحيانًا تكون هذه الأخطاء كبيرة؛ ومثال ذلك الأمر في صلح الحديبية ما رأيناه من رسولنا في تعامله مع الصحابة، وخاصة مع عمر بن الخطاب الذي أصر على المجادلة مع الرسول أكثر من مرة، ومع ذلك لم يعنِّفه الرسول لكثرة اعتراضاته، لم يقل له: هذا الكلام لا يليق معي، والحوار بهذه الطريقة لا يصح أن يكون مع الرسول ؛ لكون الرسول يعذره ويقدّر موقفه، ويعلم تاريخه وسيرته ويعلم مواقفه، ويقيس هذا الخطأ الذي حدث -وإن كان عظيمًا- في ضوء سيرته الجميلة ؛ فسيرة عمر كلها تضحيات، كلها طاعة، كلها جهاد في سبيل الله، كلها بذل وعطاء، حتى وجدناه يرسل إلى عمر خاصة بعد نزول سورة الفتح ليطمئن قلبه، فقرأ عليه سورة الفتح بكاملها حتى يقول له إن قرار الصلح هو القرار الأصوب، ولما سأله عمر بن الخطاب: "أوَفتحٌ هو؟" اكتفى الرسول بقوله: "نعم".
ولم يذكّره بخطئه السابق، وما قال له: لا يصح لك أن تفعل كذا وكذا، وما كان ينبغي لك أن تقول كذا وكذا، وحتى بعد ظهور خيرات صلح الحديبية لم نسمع أن الرسول استدعى عمر بن الخطاب، وقال له: ألم أقل لك أن هذا خير؟ ما قال له هذه الكلمات قَطُّ. إنه موقف عابر من عمر بن الخطاب، والرسول استوعب الموقف بمنتهى سعة الصدر، وقَبِل منه الخطأ؛ لأنه يقدِّر الظروف التي حدث فيها هذا الخطأ، والرسول كان رحيمًا بعُمَر وبسائر أصحابه تمام الرحمة، وكان يقدّر حبهم للإسلام تمام التقدير، فكانت هذه هي القيادة الحكيمة.
وخلاصة الأمر أن الأمة الناجحة حقًّا هي الأمة التي يشعر فيها الجندي بأنه قريب من القائد، يحبه ويقدّره ويطيعه ويثق به تمامًا، ويشعر القائد بأنه قريب من جنوده يحبهم ويقدرهم ويثق بهم، وهذه الثقة المتبادلة والتسامح المتبادل والمحبة المتبادلة من أقوى الأسباب التي تقوم عليها الأمم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة