داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
زَوَاجُ المُسْلِمَةِ مِنْ غَيْرِ المُسْلِم
رُغم أنّ مفهوم "الحُرِّية" جُسِّد في صَنَمٍ يُعْبد في هذا العصر, غير أن بعض التوجّهات تسير نَحْو كَمّ الأفواه عن التعبير عن الأفكار والمبادئ, خاصة إذا كانت تلك الأخيرة دينية، بِاسم مواجهة "الطائفية". ومن تلك المسائل التي تُطرح على الساحة بين الحين والآخر, وخاصة تحت عنوان "الزواج المدني" مسألة "زواج المسلمة من غير المسلم". فما حُكمها يا تُرى؟
من الأهمية بمكان تمهيداً لهذه الدراسة تَذَكُّر المقاصد والأهداف التي يُوَجِّه الإسلام أتباعه لقصدها مِن بناء مؤسسة الأسرة؛ وأهمها كما في الأحاديث النبوية:
1. اتباع السنة؛ "وأَتزوج النساء، فمَنْ رَغِب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري ومسلم .
2. العَفاف من الزنى ومقدِّماته؛ "فليتزوج فإنه أغَضُّ للبصر وأَحْصَن للفَرْج" رواه البخاري ومسلم.
3. الإنجاب وتكثير المسلمين بالذرية الصالحة؛ "تَنَاكحوا تَكْثُروا" رواه عبد الرزاق في الجامع مرسلاً.
4. التعاون على الخير والعبادة؛ "فاظْفَرْ بذات الدين تَرِبَتْ يداك" رواه البخاري ومسلم.
5. التمتع الحلال؛ "الدنيا مَتاع, وخيرُ متاع الدنيا المرأةُ الصالحة" رواه مسلم, ومثله الزوج الصالح للمرأة.
6. السعادة والحب والسكينة؛ وفي الآية (خَلَق لَكُم مِن أنفُسكم أزواجاً لِتَسكنوا إليها وجَعَل بينكم مَوَدّة ورحمة)... وغيرها من الأهداف.
ومن المُغَالطات الشائعة في هذه القضية ادعاء أنه لم يَرِد لها ذِكْر في القرآن! والواقع أن آيتين صرَّحتا بالحكم فيها؛ هما قوله تعالى:
1. (ولا تُنكِحوا المشركين حتى يؤمنوا ولَعَبْدٌ مؤمن خيرٌ من مُشرك ولو أعجبَكم أولئك يَدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه... )[البقرة: 221].
فالآية فيها نَهْي عن إنكاح المسلمة لمشرك وهذا النهي يدل على التحريم حتى أن العقد لا يصح أصلاً ولا ينعقد، وأما كلمة "المُشْرِك" فلها أكثر من معنى: فهي وصف لمن اعتقد تعدد الآلهة، ومن معانيها أيضاً الكفر بأنواعه - كما في "القاموس المحيط" وغيره وقد نسب القرآن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى الشرك: (وقالت اليهود عُزَيرٌ ابنُ الله وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله... * ... سبحانه عما يُشركون) [التوبة:30،31]، ومما يؤكد أن الذي يحرُم زواجه في الآية كل كافر: تعليقُ الآية الإباحةَ بغاية وشرط واحد لا غير هو الإيمان (حتى يؤمنوا) وأهلُ الكتاب ليسوا مؤمنين بالإجماع فالله سبحانه وصَفهم بالشرك في الآية السابقة وبالكفر في مثل قوله: (لقد كفر الذين قالوا إنّ اللهَ ثالثُ ثلاثة).
وقد عالجت الآيةُ وسوسةً شيطانية لا زالت تُتداوَل وهي ظنُّ بعضِ الناس أن تميُّز شخص من غير المسلمين على مسلم بصفة من الصفات: يفضله عليه, فَرَدَّ الله سبحانه هذا الوهم بقوله: (ولَعبدٌ مؤمن خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم) (أَفَنَجْعل المسلمين كالمجرمين * ما لَكُم كيف تحكمون؟!) [القلم:35، 36]، ثم إن المواصفات التي تُعجب فتاةً ما في شاب مشرك لا شك متوفرة في كثير من الشباب المسلم وبتفوُّق، فمن الذي حصر خيارات المسلمة بين مشرك له بعض الميزات أو مسلم يفقدها لا غير؟! (ولَعَبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم). وكما هو ظاهر من ألفاظ الآية أن النهي والتحريم مطلق ما دامت عِلّته موجودة وهي "الشرك", ولا حِلَّ لذلك النكاح إلا بِحَلٍّ واحد هو (حتى يؤمنوا)، فللفتاة المسلمة إن كان إيمانها من أولوياتها أن تعرض الإسلام شرطاً من شروط نكاحها على من أعجبها من المشركين كما فعلت بعض الصحابيات.
ومن أسباب وحِكَم ذلك التحريم - وإن لم تكن هي علةَ التحريم الوحيدة - قوله: (أولئك يَدعُون إلى النار) فالمسلمة تعتقد أن دينَها هو الحق الذي لا ينجي غيرُه من نار جهنم، وتعتقد أن "الزوج" هو صاحب القِوامة مدير مؤسسة الأسرة المكلَّف بقيادتها إلى النجاح الواجب طاعته في غير المعاصي، ودينُها يَمنع أن يكون المسلم أو المسلمة تحت ولاية غير مسلم: (ولن يَجْعَل اللهُ للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
وقد فُطرت المرأة على التأثّر بزوجها أكثر من العكس, وهي معرَّضة لطلب إحضار الخمر وتحضير الخنزير والتزين للمعارف والأصحاب وتعليق الصليب والمعاشرة في أيام العادة الشهرية وفي الدُّبر... بما يتعارض مع الخلق الإسلامي والحجاب والعقيدة وغير ذلك مما يوقعها في الحرام أو الكفر إن هي أطاعته (أولئك يَدعون إلى النار)، وأما إن رفضت فسيفقد هذا "الزواج" أهمَّ أهدافه: السكينةَ والحبَّ والسعادةَ والانسجامَ والتعاونَ على العبادة...
ثم إن الأولاد معرَّضون لاعتناق غير الإسلام وهذا يتعارض مع هدف: تكثير المسلمين الصالحين، وعلى كل حال فهذا النموذج يفقد الهدف الأول للزواج في الإسلام وهو اتباع السنة والمشروعية. (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) وهذه الجملة تقرر حقيقتين:
أ- طريق الجنة واحد وهو ما شرعه الله في العقائد كما في الأحكام؛ ومنها الاجتماعيات والأحوال الشخصية والخصوصيات الفردية كالزواج.
ب- الوقوع في خطأ لا يبرر الاستمرار عليه ولا الوقوع في غيره استجابةً لوساوس اليأس، فالله يحب توبة عباده وهو غفّار لِمَن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اتقى، سبحانه من كريم! فعلى الفتاة إن وقعت في هذا الخطأ أن تسارع بالتوبة وتركه. وبهذا نعرف سبب توجيه النهي إلى أولياء الأمور (لا تُنكِحوا) إشارة إلى أن عقود الزواج المحرَّمة شرعاً تَعَسُّفٌ في استخدام الحق يضر بالنفس والمجتمع يجب على المسؤولين وكل مصلح والأمةِ عموماً مواجهته.
2. (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ اللهُ أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا تَرجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلون لهن... ذلكم حُكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) [الممتحنة:10].
وهذه هي الآية الثانية وقد نزلت بعد صُلْح الحديبية سنة 6هـ، وهي تنهى المؤمنين من إرجاع المهاجرات "اللاجئات" إلى دولة الإسلام في المدينة إذا ثبت إيمانهن، فلا يجوز تسليمهن إلى أزواجهن السابقين "الكفار" وهنا صرَّحت الآية بالوصف المانع من الإرجاع فهو "الكفر" وانتفاء الإيمان على اختلاف أشكاله وتسمياته، ثم نصت الآية مباشرة على علة هذا الحكم (المنع من الإرجاع): (لا هنَّ حِلٌ لهم ولا هم يَحِلون لهن) فالعلة هي عدمُ المشروعيةِ والإباحةِ، فالآية تحرِّم ذلك بنفي جنس الحِليّة وانقطاع الزوجية السابقة بينهم، وبعد ذلك تؤكد بصيغة أخرى استمرار ذلك الحكم بـ (ولا هم يَحِلون لهن) باستخدام الفعل المضارع الذي يفيد الدوام والاستمرار, فلا يجوز لمسلمة في المستقبل أن تتزوج واحداً من "الكفار".
ومما يدل على ثبوت حرمة كل مسلمة على كل كافر إلى يوم القيامة:
- افتتاح الآية بعمومِ (يا أيُّها الذين آمنوا).
- والتعبير بـ "إذا"، بدل "إنْ" التي يُلمَح منها القِلَّة والنُّدرة.
- وعمومُ (المؤمنات) فهي جَمْعٌ دخل عليه "أل" .
- وعموم لفظ "الكفار".
- وتكرار نفي الحِلِّية بالجملة الاسمية ثمّ بالفعلية المضارعة.
- و(ذلكم حكم الله) الحق الثابت الذي (يحكم بينكم) ولم ينسخ ذلك الحكم بنص آخر.
- فإن ظن البعض أن المصلحة الوطنية في غير حكم الله فالله هو الشارع (والله عليم) بمصالح عبادة (حكيم) في كل تشريعاته، فهل أنتم موقنون.
وعَوْداً على بَدْء: فإن حرمة زواج المسلمة من غير المسلم قضية دينية لا تنتظر من أحد من البشر أيَّاً كان أنْ يأْذَن للهِ سبحانه خالقِ السماوات والأرض ومالِكِهما أن يَحْكم في خلقه بأمره وعِلْمه وحكمته تحت اسم "الطائفية" أو غيرها. وهي مسألة أجمع عليها كل علماء المسلمين كما نقل الإجماعَ غَيْرُ واحد منهم الإمام القرطبي المفسِّر (-671هـ).
وأما ادعاء أنها تمنع الانصهار والتعايش؛ فالإسلام حَكَم بوجوب العَدْل مع المواطنين من غير المسلمين, ورَغَّب في الإحسان إليهم بما هو فوق العَدل. ولكن لا يعني ذلك أن نَغُشَّ غير المسلم بادعاء أن دينه حق أيضاً, ولا التنازل عن أي مسألة من ثوابت الإسلام سواء أكانت في العقيدة أو الأحكام الفرعية - وهو ما يسميه البعض انصهاراً وطنيًّا -. وإن التعريفَ بالإسلامِ والدعوةَ من أهم وظائف المسلم؛ (قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينَكم أَلا نَعْبُدَ إلا الله...).
ولو رجَعْتَ إلى سورة الممتحنة وتأملت الآيات التي سبقت آية تحريم المسلمة على غير المسلم مباشرة لَوَجدتَ أنها - لِحِكمةٍ أرادها الله - أَرْسَتْ ضوابط الولاء والبراء، والبر والإحسان متى يجب ومتى يُحْرَم... بجلاء ووضوح (والله عليم حكيم).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن