داعية القرن العشرين أبو الحسن الندوي
الشيخ أبو الحَسَن النَّدْوي داعية عالمي من الطراز الرفيع
في (31/12/1999) قبل 9 سنوات ونيّف فَقَد العالَم الإسلامي شخصيةً كبيرة من علمائه ودعاته، وشاهداً من أصدق الشهود في القرن العشرين على أحداثه وتطوراته والخيوط الدقيقة الخفية التي تكمن وراء تدهوره وضعفه وتشرذمه واستلاب استقلاله وهويته، وداعية من أعظم دعاته الربانيين ومفكريه العميقين: إنه الإمام العلامة المفكر الإسلامي والداعية الرباني أبو الحَسَن عليّ الحَسَني الندْوي رحمه الله وأغدق عليه شآبيب محبته ورضوانه، ورحمته وغفرانه.
التقيت بالشيخ أبي الحسن النَّدْوي رحمه الله مرة واحدة في حياتي بصحبة شيخنا العبد الصالح العلّامة المحقق عبد الفتاح أبوغُدّة – رحمة الله عليهما ورضي عنهما- عندما اصطحبني معه إلى مكان نزوله في الرياض حيث قضى أياماً وذلك في شعبان من عام 1405هـ.
وقد استمتعتُ بحديثهما وامتلأت إعجاباً بأدبهما مع بعضهما وتواضعهما، ورأيتُ في سَمْت هذا الداعية الربّاني وهَديه وفيما يحمل من هموم وما يَفيضُ به حديثه من علم: ما كنت رسمتُه في مخيِّلتي عنه وقد سبق مني قبل هذا اللقاء الاستزادةُ من تتبع أخباره عن طريق الأخ في الله الفقيه الأصولي أحد نَبَغة تلاميذه الدكتور علي النّدْوي، ومما كوّنتُه من الاطلاع على عدد من كتبه النافعة العميقة، أتذكّر منها الآن: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، "المسلمون وقضية فلسطين"، "ربانية لا رهبانية"، كتابه الممتع "رجال الفكر والدعوة في الإسلام"، "روائع من أدب الدعوة"، "إلى الإسلام من جديد"، وكتابُه المُنهِض المُلهب "إذا هبَّتْ ريح الإيمان" في سيرة الإمام الشهيد أحمد بن عرفان.
والشيخ الندوي ينتسب كغيره من النَّدْويين إلى ندوة العلماء في لكهنَوْ بالهند وهي جامعة شرعية مجيدة مضى على إنشائها أكثر من (100) عام وخرّجت مئات العلماء الفحول والدعاة الربانيين.
وهو حَسَنيُّ النَّسب، عربيُّ الأصل، كريمُ المحتِد، هاجَرَ جَدُّ أسرته الأعلى (قطب الدين محمد المدني) في القرن السادس الهجري من المشرق العربي إلى الهند على إثر هجوم المغول والتتار عليه. وبرز من أعلام هذه الأسرة ربانيون كبار ومجاهدون عظام منهم الإمام المجاهد الشهيد أحمد بن عرفان (المتوفَّى عام 1246هـ) مؤسس دولة إسلامية في القرن الثالث عشر في شمال الهند.
وُلد الشيخ أبو الحسن عام 1333هـ (=1914م) في قرية "تكيّة" بمديرية رائي بريلي بالهند، وأبوه ((الشيخ عبد الحيّ)) عالم كبير ومؤرِّخ مجيد له أعظم وأوسع موسوعة في تراجم علماء وأعيان الهند سماها ((نُزهة الخواطر وبهجة المَسامع والنَّواظر)) وقد طُبعتْ عدة مرات في الهند في ثمانية مجلدات، ثم طُبعتْ قبل وفاة (الشيخ أبي الحسن) في بيروت عام 1999 في ثلاثة مجلدات وقدمه لها وسمّاها "الإعلام بما في تاريخ الهند من الأعلام".
أما والدته فهي امرأة صالحة كان لها تأثير روحي وعاطفي وتربوي على ولدها وكانت تحفظ القرآن واسمها "خير"، ولها كتابات وشعر، ولطالما كان يتحدث الشيخ أبو الحسن رحمه الله عن أخبارٍ لافتة لها عن شأنها في العبادة والابتهالِ إلى الله والأذكار والأدعية.
وللشيخ رحمه الله كتاب بالأردو – لغة مسلمي الهند- في سيرتها وأخبارها اسمه ((ذِكْرُ خير)).
توفي والده عام 1341هـ وعمره تسع سنوات وبقي في عناية أمه وكفالة وتربية أخيه لأبيه المربي الطبيب الدكتور عبد العلي رئيس ندوة العلماء، وهو من أشد الناس تأثيراً في تربيته.
تخرّج الشيخ رحمه الله بدار العلوم – ندوة العلماء، ة وبدأ بالتدريس وعمره (20) سنة وكان عمره عندما ألّف أول كتاب بالأردو وهو في سيرة السيد الشهيد أحمد بن عرفان: (24) سنة.
تخصص الشيخ رحمه الله بعدد من العلوم الشرعية على رأسها: التفسير والحديث والأدب العربي ، ويُعتبر من الدعاة المرموقين بل من أبرز القيادات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين في النصف الثاني من القرن العشرين، وله اطلاع واسع على التاريخ. وكان يُتقن ثلاث لغات: العربية والأوردية والإنكليزية، ويعرف الفارسية معرفة جيدة.
وقد شَغَل وظائف ومناصب علمية عديدة تدل على علوّ همته وعظيم الثقة به رحمه الله: فقد رأس ندوة العلماء عام1961، وكان عضواً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضواً في المجلس الأعلى العالمي للمساجد، وعضواً في المجلس الفقهي بمكة المكرمة، وعضواً في المجلس الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، وعضواً في المجلس التنفيذي بمعهد ديُونبد بالهند.
وقد أسس ورأس مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بلندن وفرَّغ له أحد طلاب العلم النابغين الناشطين والباحثين المتميّزين: أخي في الله الدكتور محمد أكرم بن تجمُّل حسين النَّدْوي، والمجمع العلمي الإسلامي التابع لندوة العلماء بالهند، ومجلس المشاورة الإسلامية بالهند الذي يضم الزعامات والقيادات الإسلامية لمتابعة قضايا المسلمين فيها، ومجلس الأحوال الشخصية العالمية لمسلمي الهند الذي كان له دور كبير في المحافظة على هُويّة مسلمي الهند، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية.
رحلاته الدعوية: لقد شغل قلبَ الشيخ رحمه الله هذا الدينُ العظيم فملأ عليه فكره ومشاعره ووجدانه، فصارت قضاياه وهمومُ المسلمين شُغْلَه الشاغل وهمَّه الأكبر مما دفعه للقيام برحلات عديدة إلى بلاد المسلمين ناصحاً وداعياً وقائداً ومحاضراً، وقد سجَّل أخبارها في عدد من كتبه، مثل: ((مذكِّرات سائح في الشرق العربي))، ((من نهر كابُل إلى نهر اليرموك))، ((أسبوعان في المغرب الأقصى))، ((في مسيرة الحياة))، وهوكتابه في سيرة حياته ومدوَّنةٌ حافلة تشتمل على أخباره وأفكاره وتجاربه طُبع منها 3 أجزاء وبقي رابع مخطوطاً إلى الآن، كما سافر مرات إلى بلاد الغرب يلتقي بالجاليات الإسلامية وينصحها ويرفع من معنوياتها ويربطها بهويّتها الإسلامية ويقدّم حلولاً لمشكلاتها ويتشاور مع قادتها، وله كتاب ((أحاديث صريحة في أمريكا))، فضلاً عما سجّله في كتابه ((في مسيرة الحياة)).
والشيخ رحمه الله متعدد المواهب عظيم المناقب، ولكن يتميز أنه مفكّر إسلامي من الطراز الرفيع، وداعية موهوب متحرِّق، وربّاني ذو قدم راسخة وذوق أصيل سُنِّي في السلوك إلى الله وهذا نادر في عصرنا فيمن كان له اهتمامات الشيخ الندوي وبعض من نشاطاته ومناصبه:
1- أمّا إنّه مفكّر إسلامي فتشهد لذلك كتبه المتميزة بالتحليل الدقيق والفكر العميق والثقافة الواسعة والمنهجية المترابطة والمنطق السديد، منها: ((ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)) الذي قَدّم له مقدّمة مهمة تعرِّف بقيمته وأهميتة شهيد الدعاة الأستاذ الكبير المفكر الإسلامي سيد قطب رحمه الله، ((الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية))، ((بين الدين والمدنيّة))، ((الأركان الأربعة في الإسلام))...وسواها.
2- وأمّا إنه داعية موهوب فيشهد لذلك واقعُه وتجاربه، وكتاباته واهتماماته، فقد كان يحمل في قلبه الكبير هموم الإسلام والمسلمين، ورحم الله من قال:
إن النفوس إذا كانت كباراً تَعِبَتْ في مرادها الأجسامُ
وكان رحمه الله يملك حُرقة الداعية وتذوُّق المجرِّب الخبير ويُجيد فنّ الدعوة بتفوّق، وسيرةُ حياته وكُتُبه الدعوية تؤكد ذلك، ولذا أثّر فكرُه الدعوي في الصحوة الإسلامية المعاصرة، ونهل من كتبه جيلُ الدعاة في القرن العشرين. ولقد اجتمع فيه صفات الداعية القائد: العلم، والحُرقة، والخُلُق، وفنّ الدعوة.
فالشيخ رحمه الله عنده نصيب وافر من العلم الشرعي والفقه العميق للكتاب والسنّة مع اطلاع واسع على الثقافة العالمية، وفي قلبه حُرقة عارمة جعلت أكبر همّه قضية الإسلام ونشر دعوته، حتى صار محورَ نشاطه وهدفَ رحلاته "إيقاظ الشعور الديني في المسلمين ، وإعادة الثقة إلى نفوسهم بمركزهم ومبدئهم وغايتهم في الحياة ورسالتهم للعالم البشريّ، وتهيئة النفوس لحمل هذه الرسالة وتبوُّء مركز القيادة والإمامة للعالم الحائر الثائر، وتجديف سفينة الحياة، الضائعة بين الملاحين العابثين والركّاب النائمين"، كما في تقدمته لكتابه ((إلى الإسلام من جديد))، والمتتبِّع لأخباره والقارئ لكتبه والعارف بشخصه يعرف قدر ما كان عليه من الخُلُق والإتقان لفنون الدعوة والإقناع بالإسلام والتأثير بالمدعوّين والارتقاء بحال من يُربِّيهم: علماً وفكراً وسلوكاً وخبرة.
3- وأمّا إنه ربّاني فقد اتفق على وصفه بذلك كلُّ من عرفه أو كتب عنه، وصدق من قال: ((أَلْسِنَةُ الخَلْق أقلام الحق))، وفي هذا فأْلٌ حَسَنْ بحقّ هذا الداعية الرباني لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم شهداء الله في الأرض" متفق عليه.
وهو لم يقتصر على مجرّد الاهتمام بجانب (الرّبانية) في الإسلام وتركيزه عليه وإبرازه في سِيَر المصلحين والمجدِّدين؛ بل اتصف به وتوجهت عنايته إليه فظهر في سَمْته ودلِّه، ومَنْطقه وهدْيِه، وحاله ومقاله، وسلوكه وأخلاقه، فله نصيب إن شاء الله من تطبيق أمر الله: )ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تَدْرُسون(.
وأخيراً أقول: توفِّي الشيخ وتوقَّفَ قلبُه العامر المبارك ولَفَظَ آخر أنفاسه الطاهرة ضحى يوم الجمعة في 31/12/1999 والمصحف بين يديه يقرأ فيه سورة الكهف، فوقعت وفاته في يومٍ مبارك (يوم الجمعة للوفاة فيه فضْلٌ وبِشارة)، من شهر مبارك (حيث صادفت وفاتُه العشرَ الأواخر من شهر رمضان فقد توفي في 23 رمضان)، على حالة مباركة (وهو يقرأ في كتاب الله).
رحمه الله وأعلى منزلته في عليّين، وتَقَبَّله في عباده الصالحين، وجَمَعَنا وإيّاه وسائرَ إخواننا وأخواتنا وأحبابنا ومشايخنا في جنّات النعيم بصحبة سيّد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين، اللهم آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة