اسطنبول
الملف السعودي المصري.. زاوية متوارية
يعتبر هذا الملف أحد أكثر ملفات المنطقة حساسية في تفصيل اتجاهاته ودوافعه، وفي تحديد سيرورته الإستراتيجية المتصلة بعلاقات البلدين وبمستقبل علاقات الدول العربية المركزية وواقع المشرق العربي عموما.
ولأننا لا يمكن أن نُحيط بجوانب هذا الملف، فسنركز على الزاوية المتوارية التي تغيب عن فريقين تناولا هذا الملف كثيرا وانقسما بشأنه؛ فريق يرى أنها علاقة تحالف مطلقة بين نظامين، تهيئ لجولة جديدة من المواجهات مع الإسلاميين في الوطن العربي وتركيا، وصناعة شراكة محورية جامعة تُفرض فيها الأجندة المصرية بحسب تقدير فريق الرئيس السيسي أولوياتها، وفريق آخر من الإسلاميين فوجئ من حجم الاتفاقات وحميمية زيارة العاهل السعودي، بعد أن كان يراهن على توتر العلاقات مع مصر الرئيس السيسي ودخولها مرحلة جديدة بعد تولي الملك سلمان الحكم، بناء على المشاعر الشعبية العاطفية التي تزدهر في الشارع الخليجي ومواقع التواصل الاجتماعي المشتبكة مع 30 يونيو وما أفرزته من مآسي في رابعة وغيرها.
والزاوية المتوارية التي لم يُسلط عليه الضوء، بقراءة عميقة هي المفقودة، وإن كنّا هنا نؤكد بأنها ليست سوى قراءة تحليلية تسعى لعرض الصورة عبر عناصر مهنية دقيقة، ولا نستطيع أن نجزم بشأن وجهة قيادة القرار في المملكة نحو هذا الملف.
ولعل المدخل المهم والدقيق هنا هو مقابلة الإعلامية لميس الحديدي في السي بي سي المصرية مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، حيث أصرت على انتزاع تصريح محدد بذات معايير النظام المصري الحالي حول تجريم وإرهابية الإخوان المسلمين في العالم السني، تؤسس عليه حربا أمنية وسياسية مطلقة على كل من ينتمي لفكرهم الواسع الانتشار ضمن المدرسة الإسلامية.
والذي يُشاهد المقابلة تلفزيونيا، يدرك تجاوز الإعلامية واستفزازها المتكرر الذي لم يُغير محور جواب الوزير الجبير، المؤكد على أن الإدانة تتركز على من يمارس العنف والإرهاب، سواء تسمّى بتنظيم إخواني أو غيره، وظل الجواب يعتمد هذا الطرح رغم تكرار مقدمة البرنامج.
وكان من الخطير جدا والمناهض كليا للواقعية السياسية، أن يُنتزع من الوزير الجبير أو من أي مسؤول تصريح يفتح مواجهة أمنية وسياسية مع مدرسة سنية لها أخطاؤها ولها إيجابياتها بمثل تشعبات وانتشار الإخوان، كمنهجية تَدَين تحتضن نسبة غير قليلة من الشباب الإسلامي في العالم السني.
ولكن ذلك لا يعني كما قدمنا أن الزيارة لم تأت في إطار تعزيز للعلاقات الإستراتيجية مع مصر، وإن كانت في أبعاد مهمة تتجاوز نظام الحكم إلى مصر الدولة، ولكن أيضا للرئيس السيسي وفريقه مصلحة كبيرة من هذا التوجه.
وانطلاقا من ذلك نحتاج هنا أن نؤكد على قضيتين ضمن موقف المثقف العربي، فيما يتعلق بالجزيرتين صنافير وتيران والمشاريع المشتركة.
الأولى: أن حسم أي ملف خلاف حدودي هو مطلب عربي شامل يتفق عليه الجميع، وأن أي مصلحة تتحقق للشعبين وللوطن العربي مرحب بها عند تحققها، ولا يوجد أي مبرر لصناعة مشروع استفزاز وصراع قطري يُخلق للأجيال، ولا لتحفيزهم ضد هذه القضية، فالمهم أن تُقصى الجزيرتان عن أي استفادة لتل أبيب، وتقلّص أي مساحة قضت بها كامب ديفيد واستفادت منها إسرائيل في الجزر.
وأما في المشاريع المشتركة، فالعبرة أن تكون لصالح الشعبين وأن تنجو من أي لوبيات فساد عانى منها الشعب المصري، وذهبت -بسبب وجودها- تلك المشاريع إلى نطاقات خاصة.
وسنحاول هنا أن نقرأ عناصر التفكير التي يمكن أن تكون ضمن خريطة التصور المتوارية عن الإعلام، لخطة الرياض في الملف المصري:
1- مصر دولة مركزية كبرى في الوطن العربي، وخاصة في مشرقه، وأي نوع من التوازنات العربية العربية، والاستقرار أو التهدئة الإستراتيجية، سيمر بشراكتها بكل تأكيد، وقرارها السياسي اليوم وكل يوم، لدى المجموعة الحاكمة، مهما كان توجهها.
2- تخوض الرياض معركة مصير مع إيران التي نجحت بالفعل في تحقيق اختراقات واسعة بما فيها تلك التي تحققت في الملف المصري، وخاصة بيان القوات المسلحة المصرية الرسمي ضد ثورة الشعب السوري وتضامن الرئيس محمد مرسي معها، كأحد مبررات 3 يوليو التي طرحها الجيش.
3- ليس من مصلحة الرياض ولا البعد العربي تشجيع الفريق العسكري السياسي المتمكن في القاهرة، من زيادة التعاون مع التوافق الروسي الإيراني الذي شجعته الصفقة الغربية في سوريا أو في أي موقع، بل تقتضي المصلحة السعي لوقف أي تورط مصري تستفيد منه إيران.
4- تنظيم العلاقة الثنائية، يُعطي الرياض بعدا أكبر في موقعها من تقييم الغرب الجديد لدور دول الخليج العربي وخاصة الرياض ومستقبلها، وهو يؤثر في ملفات عديدة.
5- هناك أحاديث عديدة من أن المشاكل الكبيرة التي وقع فيها الرئيس السيسي، ومستوى التدهور الأمني والحقوقي غير المسبوق حتى في فترة الرئيس مبارك، شجع على تناول مسألة تغييره من داخل الشخصيات النافذة، ويلاحظ هجوم أطرف عديدة مشتركة في 3 يوليو/تموز على الرئيس السيسي، وهو ما يُمكن أن يعني بأن زيارة الملك سلمان كان السيسي محتاجا لها، داخل المنظومة الخاصة للقرار القومي.
6- لا تفضل الرياض مطلقا أن تدخل مصر في حلقة جديدة من التذبذب، وبالتالي ترى أن السيسي يمكن أن يُطور وضعه، وهو أفضل من إسقاطه وزيادة اضطراب الوضع الوطني، حتى لو كان التغيير عبر مقرب من المؤسسة العسكرية القوية.
إن هذه التقديرات ستخضع لفترة اختبارات صعبة مقترنة بموقف الرئيس السيسي نفسه، وقدرته على الخروج من المنعطف الوطني الذي يخنق مصر، وبالتالي تعزيز موقعه بقرارات تعيد الحياة السياسية لمصر وحيويتها، والتي كان الرئيس مبارك يحافظ على مستوى منها، ولا يسحقها كليا.
ولكن هل من هذه القرارات مشروع مصالحة مع الإخوان تتبناه الرياض بالتنسيق مع تركيا؟
هناك أحاديث وتسريبات لكنها غالبا لا تمثل توجها منهجيا لكون هذا التوجه يفتقد أصلا لمستوى من الاستقرار داخل الطرفين المصريين وموقع القرار في كل منهما، ويمكن أن تطلق مثل هذه المباحثات التي سيُتكتم عليها مع أنقرة لو وصل الطرفان لمستوى استقرار سياسي، وخاصة بعد الانقسامات الشديدة داخل الإخوان.
أما ما يتعلق بمستقبل مصر، وثورة 25 يناير وانتفاضتها التاريخية، فهو أمر لا يحدد قراره محلل سياسي ولا حسابات عربية ولا دولية، وإنما تلك الثورة ذاتها وحجم تبني الشعب المصري لها، وهي اليوم تعيش صراعا نازفا مستمرا بين إسلامييها وعلمانييها، وقد لا تشارك في أي تسوية محتملة.
لكن ربما يشترك الجميع في قناعة بأن مصر يجب أن تخرج من دوامة عنف الدولة، وعنف الجماعات الذي يزحف من سيناء إلى داخلها، في حين قد ترى ثورة 25 يناير أو ما تبقى منها أن تحويل الكفاح إلى سياسي من داخل مصر، وتأمين استقرار الدولة كدولة، مخرج لها ومقدمة لمراجعات ضخمة، وخاصة لدى الإخوان في إعادة قراءة التاريخ، وفهم الفكر الإسلامي التجديدي وآفاقه المعاصرة.
وهي مهمة وضرورة لا يُحتج عليها بالاستبداد الذي عاشته مصر وغيرها، لأن الاستبداد لا يُقدم سر الحياة لمعارضيه، وإنما يستخدم أخطاءهم لتصفيتهم في وقت مميت.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب
اسطنبول
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة