وقفات مع حميدة قطب
غابت عن الدنيا والكلمات تزفها والشوق يدفعها للقيا الأحباب في الجنان... إنها الأديبة المجاهدة «حميدة قطب»... التي رفضت أن تكون صفراً يضاف إلى نظام الظلم، فصارت رقماً غير قابل للقسمة...
رفضت أن تقول للظالم «نعم»... وقالتها بثبات «لا».. فعاشت في سجون التعذيب والعذاب ما يزيد على ست سنوات، وعندما خرجت من قبور السجون إلى دنيا النور، أشرقت أناملها تخط معاناة الليالي والأيام والسنين والشهور...
فطوبى لها ولكل من سار على هذا النهج وفي هذا السبيل... طوبى لهم الغربة التي عاشوها... طوبى لهم الثبات والتضحية والعطاء...
قيمة حياة الأديبة «حميدة قطب» رحمها الله في مسيرة جهادها الطويلة، في البصمة التي تركتها، في أعمالها الأدبية الرائعة التي خطّتها بقلم التجربة التي خاضتها في فترة اعتقالها وما بعدها.
وفي جولة سريعة بين جدران الموت المتقطّع، لا بد لنا أن نتوقف أمام شموخ التضحية والفداء وأمام صمود الثبات والعزة والإباء:
نتوقف لندرك أن حمل العقيدة الثابتة في النفس
- حتى تُشرَب هواها، وتصبح لها في القلب جذور متفرعة، لتكون الموقد الذي يستمد منه المؤمن القوة في مواجهة مصاعب الحياة وعوائق الطريق في الدعوة إلى الله - هو سر قوّتها التي واجهت بها الزبانية وهم يساومونها لتقول غير الحق ولتخضع لضغوطاتهم، لكنها تأبى وتُصر بصمت لتغرس سيف الصمت في قلوب أولئك الظَّلَمة، الصمت الذي يحمل في طياته التصريح بالحق.
نتوقف أمام الإيمان بصدق الدعوة التي حملتها إيماناً راسخاً رسوخ الجبال لا تقهره المعاول ولا تهزّه الرياح العاتيات، ويتجلى ذلك واضحاً في قولها لابن شقيقتها - وهو يبلغها نبأ استشهاد أخيه رفعت سالم تحت التعذيب - بكل ثبات وثقة بالله وبخط المسير: «وماذا في هذا؟! أليست الشهادة قمة الأمنيات؟! أليس هو الطريق... طريقنا كلنا؟»... فهنيئا لها..
اليقين بنصر الله
وأنه سيكون لهذه الفئة مهما سامها الظُّلاّم من ألوان العذابات، ويتجلى هذا اليقين في مدلهمات الليالي عندما تشتد وطأة التعذيب على الراحلين إلى عالم الحياة... فقد رأت وسمعت ونقلت إلى العالم مشاهد الشهادة التي نالها المعذبون ودماؤهم تسيل لتروي الدعوة وألسنتهم تلهج بذكر الله وقلوبهم تحمل يقين النصر، وإن كان ظاهر حالهم للعالم يوحي بالذلة.. فللنصر في هذه المشاهد معنى آخر غير الظَّفَر بالغنيمة، فيه معنى الانتصار على النفس أن تهبط إلى الرضا بالانصياع لمطالب البغاة، وفيه هزيمة نفسية للطاغية لعدم قدرته أن يُثني هذا الصامد أمامه..
وما أروع تعبيرها بيقين: عن «النصر الحقيقي هو دائماً هكذا... دائماً يقطر دماً... يسقي نبتة الحق فتمرع... تنمو وتنمو... تغطي ظلالها الخضراء صحراء لافحة!»
وكم انتظر الأعداء من الداعية المجاهدة حميدة لحظة تسقط فيها وقد خانت الأمانة ونكثت العهد على نفسها... تلك أمانيّهم... خسئوا وخابت نفوسهم الدنية بما سوّلت لهم شياطينهم، لكنها كانت المؤمنة الصابرة التي ما اتخذت سبيلاً غير اللجوء إلى الله بالدعاء والتضرع، والفزع إلى الصلاة، واستقراء الآيات المحفوظة في القلب وتدبر معانيها. فكان المدد الرباني ينسل إلى روحها فيفيض فيها بِشراً ويعود عليها بالسكينة، ويستحيل الخوف طمأنينة وأمناً.
نتوقف أمام الثبات والصبر على العذاب
بألوانه المختلفة، بدءاً من الجسدي وهي الفتاة التي استطاعت بعودها النديّ أن تقاوم الألم وتتحمل أوجاعه ولا تنهار وقد وهَن الجسم ونَحَل بسبب سوء التغذية والحرمان من الحق الإنساني في الأكل والشرب وحتى في قضاء الحاجة... مروراً بالعذاب النفسي في العزل الانفرادي الذي أمضت فيه سنين طويلة بأيامها ولياليها لا تجد من تحدثه غير نفسها... وصولاً إلى الثبات أمام الإغراءات الدنيوية التي قُدمت لها ولغيرها من السائرين في هذه السبيل، فبقيت صامدة راسخة تكابد تلك العذابات تنتظر العفو والفرَج من عند الله.
وما زال التضييق يشتد على سجناء الأجساد أحرار الأرواح، طمعاً بانتزاع التنازل بكلمة، أو بانكسار ضعف، أو بطلب حاجة! إلا أن العزائم تبقى راسخة، والإيمان يزداد توهجاً في النفوس النحيلة، حتى إذا ما قضت سبيلها إلى الشهادة قتلت نفوس الأعداء غيظاً ألّا ينالوا منها ما يريدون، أما مَن كتب الله عليه البقاء بين براثن الزبانية فكانوا أمثلة في صمودهم وفي شموخ نفوسهم.
في تلك السنين التي قضتها حيث ذاقت حنظل الحياة وتجرعت آلام العذاب كانت تُلقى في روحها نفحات ربانية وإشراقات أمل بخير قادم... لقد كانت تحمل قلب المؤمن الصادق بإيمانه فإذا بالعذاب يتحول إلى بلسم لأدواء النفس وتلتئم جراح الروح من براثن الدنيا ومادياتها لتسمو في عالم الربانية السامق، المقبل بكلِّيته على الله.
وإذا ما اشتدّت وطأة العذاب أتى الفَرَج من الله ليؤيد به من والاه: {ومَن يتقِ الله يجعل له مَخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} حقاً إن الدعوة التي تُروى بالدماء لها وهج وقّاد ينير طريق السائرين إلى الله الذين يوقنون أن أولئك الذين قضَوْا، وأن هؤلاء المنتظرين المرابطين في سبيل الله: على حق، فما كانوا ليثبتوا مثل هذا الثبات، وما كان الله ليؤيدهم بثباتهم لو كانوا على الباطل؛ بَذَلوا النفوس والأموال وذاقوا ألواناً من العذابات وهم يوزعون بسمات الرضا والفخار.
إن الدعوة التي ما زالت تقطر دماً بريئاً لن تذبل أوراقها ولن تتوقف عن العطاء، وستثُمر أنواراً متلألئة في القريب العاجل إن شاء الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن