الفيسبوك بين الضرورة و إضاعة الوقت

في أول يوم من رمضان كتبت منشوراً أثار الكثير من الحوار و الجدل فتفاعل معه المئات و نقله العشرات مما أدى إلى سلب الكثير من وقتي و تفكيري حتى وصلت إلى درجة بت فيها أتفقد التعليقات و عدد اللايكات بين الركعات في صلاة التراويح .
هذا الاقتحام المزعج في أكثر الأوقات حرمة في العام و في الوقت الذي كنت أنشد فيه استرجاع روحانية ضائعة دفعني إلى أخذ قرار التقليل من وقتي على الفيسبوك ، فقمت بحذفه من على الجوال و الآيباد أملاً في إخراجه من منبهات حياتي اليومية .
فكيف كانت التجربة ؟
لاحظت لأول عدة أيام أنني كنت قد اعتدت فتح الجوال فقط لأتفقد الفيس و بات ذلك تصرفاً لا شعورياً عندي ، و بعد مرات متكررة من البحث عن الفيس في جوالي بلا جدوى نابني الإحساس بالامتعاض و الشعور بمن حُرم من مصدر إدمانه و قد كنت ظننت أنني سأستطيع التخلي عنه دون أدنى صعوبة .
و ما حدث هو أنني لاحظت بعد ذلك أني بدأت أبحث عن مشاغل أخرى على الجوال بدل أن أتركه ، فصرت أقرأ في التوتير أو اللينكد إن أو الپنترست و الخيارات تطول ، لم تتوقف إضاعة الوقت ، و لكن خف التفاعل مع الآخرين .
يبدو أن التخلص من عادة التقاط الجوال و النظر فيه دون هدف ليست سهلة .
لقد اكتشفت أن الإدمان عملية مركبة ، فَلَو زال إدمان الفيس ، فإن إدمان الجوال بتساليه المتعددة مازال موجوداً . و ما لم يكن هناك جدول أعمال يشغل الفراغ الجديد الحاصل فإنه سيضيع في إدمان جديد .
بعد مضي أسبوعين على بداية التجربة شعرت أن عالمي الخاص بدأ يعود إلى حجمه الطبيعي و بدأت أحاول تعويض النقص الحاصل في تواصلي مع من هم حولي مباشرة .
هذا الشعور من الانعتاق من العوالم البعيدة تبعه خوف من فقدان شيء لا أعلم إن كان ثميناً أم لا !
سألت نفسي : هل أغامر بفقدان أصدقاء ظننتهم وهميين و لكن اكتشفت مع الوقت أنهم حقيقيين بطريقة جديدة غريبة ؟ فهم أصدقاء آنس بهم و بكلامهم و أظن أني أعرفهم كثيرا مع أني لم ألتق بهم من قبل .
هل الابتعاد عنهم لأيام و أسابيع سيمحي صداقتي معهم ؟ هل هذا أمر حتمي و أنا مازلت أذكر معظم أصدقاء المرحلة الابتدائية الذين لم ألتق بهم مرة أخرى منذ ثلاثين عاماً ؟
لا أظن ذلك ، فأنا أبقيت على صحبة فرضتها علي طفولتي و مدرستي ، فكيف أنسى أصدقاء أنا اخترتهم لإعجابي بأفكارهم و مواقفهم و ذكائهم أو طرافتهم و شهامتهم ؟
كيف أنسى كل هؤلاء ؟ هل من المعقول أنني قد أفقدهم في حال نسيت كلمة السر لحسابي على الفيس أو سرقها مني أحدهم ؟
لا أظن ذلك .
لا أعتقد أنني سأفقد أي صداقة عن طريق النسيان و مرور الأيام ، بل لعل الأيام تقويها .
وصولي إلى القناعة بأن الصداقة لا يتحكم باستمرارها منشور عابر يومياً - و لو عنى ذلك خلوه من الأهمية أو المعنى - دفعني إلى الاستمرار بالحمية التي بدأتها في رمضان .
التقليل من وسائل التواصل الاجتماعي و تعويض ذلك بالمزيد من الوقت و التركيز مع الزوجة و الأطفال مفيد لصحتنا جميعاً بلا شك .
قررت أن أتبع أسلوباً جديداً في تعاملي مع الفيس بوك .
لن أنقل الأخبار ما دمت لست مصدر هذه الأخبار ، لن أكتب منشورا أقول فيه صباح الخير أو مساءه ...
لن أكتب منشوراً فقط لأقول أنا هنا ، فأين أنتم ؟
لن أكتب لأنفّس عن نفسي عندما أكون محبطاً ، لن أكتب عندما أريد تحميل فشلي أو خسارتي على أحد غيري .
لن أكتب لأتهم الأعداء و ظلمهم و الأصدقاء و ضعفهم و الجيران و غفلتهم .
سأكتب فقط عندما يكون هناك شيء إيجابي أقوله ، أظن فيه فائدة أو زيادة تبرر وجود صفحة جديدة بين ملايين الصفحات كل يوم .
لن أطل عليه إلاّ كل عدة أيام مرة ، بعد أن كان عدة مرات في الساعة .
هناك من يقول أن الفيسبوك بوك هو مجرد عالم وهمي مضيع للوقت ، و أنا أخالفه في ذلك ، الفيسبوك منبر مهم جداً لمن يتقن استخدامه و عورة لمن يكتب كل ما يخطر بباله قبل أن يفكر فيه أو ينقل كل ما يصل إليه قبل أن يتحقق منه .
الفيسبوك قد يعطيك منبراً يستمع له المئات أو الآلاف ممن يستطيعون التغيير و التأثير و ممن قد يتفاعلون معك من بلاد العالم المختلفة .
للتواصل مع الناس و التفاعل معهم لذة لا يستطيع إنكارها من جربها .
الإنسان منذ طفولته يتعود على الإطراء و التشجيع و التصفيق ، و مع ازدياد عمره و نضجه يعتقد أنه تجاوز هذه المرحلة و لكن تمضي الأيام ليكتشف بعد ذلك أن التصفيق عاد له عبر لايكات و مشاركات تشعره بلذة يخجل من التصريح بها ، و أخشى أن تؤدي هذه اللذة إلى الإدمان بعد كثرة الاعتياد عليها .
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء السادس
وجوه النفاق.. في الدين والحياة
تأثير التنمُّر على نفسيّة الطفل
أشرَق الأمل... وعاد الحقُّ إلى أهله
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثالث