خبير تربوي وكاتب صحفي ومدرب تنمية بشرية ومستشار أسري
رمضان وثقافة الاستهلاك
التربية الاستهلاكية هي سلوك الإنسان في استهلاكه للماديات من غذاء وشراب ولبس وسكن ومسليات، وهي كذلك استهلاك الثقافة والفكر. ومستوى الاستهلاك يعبر عن شخصية الإنسان والمجتمع وعن مستوى الفكري للإنسان والمجتمع.
والتربية الاستهلاكية تؤدي داخل المجتمع إلى سلوك جماعي يبني النموذج الاستهلاكي للمجتمع الصحيح والسليم.
والتربية الاستهلاكية تهدف إلى توجيه الاستهلاك بهدف تحقيق التجانس بين استهلاك المجتمع وقيمه، وبين استهلاك المجتمع ومستواه الاقتصادي وبين استهلاك المجتمع ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبين استهلاك المجتمع وتغيرات الظروف الاقتصادية.
وغياب التربية الاستهلاكية يفتح المجال لوسائل الإعلام العدوة بتوجيه الأنماط الاستهلاكية داخل المجتمعات النامية لاستغلال فراغ التربية الاستهلاكية وتنميط سلوك الأفراد والمجتمعات حسب مصالح هذه الشركات والمؤسسات
إن تراجع قوى الإنتاج والبذل المادي والمعرفي هو نتيجة لسببين:السبب الأول هو ضعف الفهم الإسلامي الاقتصادي الفردي، وتناقض السلوك الاجتماعي الأسري في فترة رمضان مع متطلبات هذا الشهر الكريم، أما السبب الثاني وهو الأخطر، وهو الإعلام المضلل خلال شهر رمضان على تصوير هذا الشهر على أنه شهر للاستهلاك الغذائي وشهر للتسلية.
هناك نهم استهلاكي استشرى بين الناس عامة في هذا الشهر الكريم، دون مبرر منطقي، فالجميع يركض نحو دائرة الاستهلاك المفرط.
فالزوجة تضغط باتجاه شراء المزيد، والأولاد يلحون في مطالبهم الاستهلاكية، والمرء نفسه لديه حالة شراهة لشراء أي شيء قابل للاستهلاك وبكميات أكثر من اللازم والواضح أن الدول المتقدمة طورت نظامها الصناعي قبل أن تدخل عصر الاستهلاك والمجتمع الاستهلاكي، في حين الدول العربية دخلت عصر الاستهلاك قبل أن تدخل بشكل جيد عصر الإنتاج.
وبالتالي فالواقع يقول إننا مجتمعات متخلفة لأننا تجاوزنا مرحلة التصنيع العلمي الحقيقي ودخلنا باب الاستهلاك بكل مظاهر التبذير المتوفرة سواء كنا دول منتجة للنفط أو دول أقل غنى، وهذا يعني فقداننا على مستوى التربية الفردية وعلى مستوى سياسة الدولة لمقومات الإنسان المنتج؛ وبالتالي لمقومات التنمية الحقيقية. بالإضافة إلى فقداننا للتربية الدينية ولقيمنا الإسلامية التي تحثنا على استعمال العقل أكثر مما تحقنا على توظيف غرائزنا الطبيعية.
لا بد من البحث عن البديل عن الثقافة الاستهلاكية داخل أو خارج شهر رمضان هي الثقافة العلمية التي يمكن تحقيقها عن طريق وسائل الإعلام المستقلة المرئية أو المكتوبة، والجمعيات الثقافية، والخيرية
ففي السعودية أزيد من 15 ألف جمعية ولو قامت كل هذه الجمعيات بحملة موحدة حول ترشيد الاستهلاك بأساليب تواصل معاصرة لكان لذلك نتيجة إيجابية على الاستهلاك، وفتح المجال الإعلامي لجمعيات حماية المستهلك حتى تستطيع التواصل بشكل دائم وموسع مع المواطن وهكذا فمِفْتاح حلِّ الأزمات الحقيقي إنَّما يكمُن في التربية الاستهلاكية، وهو مفهومٌ حديث نسبيًّا، التي جعلتْ من الحريَّة المطلقَة بلا ضوابط إلِهًا يُعبَد من دون الله، فلقد كان هناك مَن يعتبر هذا النمطَ مِن التربية اعتداءً غير مبرَّر على حق المستهلِك في أن يستهلك ما يشاء، وقتَما يشاء وكيفَما يشاء، ولكن اكتشف العديدُ من المجتمعات أنَّ تدليل المستهلك إلى هذا الحدِّ باهظ الثمن، وأنَّها إذا استطاعتْ أن تلبيه اليوم، فقد لا تستطيع ذلك في الغَدِ.
ولذلك عادتْ مفردات التدبير والتوفير، وحُسْن التصرُّف في المال، تشقُّ طريقها إلى الدِّراساتِ الاقتصادية الحديثة.ووجَدْنا من الاقتصاديِّين مَنْ يقول: لقد تحدَّثْنا كثيرًا عن قوانين الاقتصاد، ورسمْنا المزيد من المنحنيات والمعادلات، ولكنَّنا نَسِينا المتغير الأكبر، الذي يقرِّر صلاحيةَ أو عدمَ صلاحية كلِّ ما تحدثْنا عنه، وتوقعْناه وهو الإنسان.
إنَّ رمضان هو محاولةٌ لصياغة نمطٍ استهلاكي رشيد، وعملية تدريب مكثَّفة، تستغرِق شهرًا واحدًا، تُفهم الإنسانَ أنَّ بإمكانه أن يعيش بإلْغاء الاستهلاك؛ استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية، ولساعات طويلة كلَّ يوم، إنَّه محاولةٌ تربوية لكسْر (النَّهم الاستهلاكي الذي أجمَع علماءُ النفْس المعاصرون أنَّه حالةٌ مَرضيَّة، وأنَّ مجال علاجه في عِلم النفس، وليس في علم الاقتصاد)، وإنْ كان يصيب بتأثيراته أوضاعَ الاقتصاد وأحواله.
إنَّ رمضان مناسبةٌ للمسلمِين؛ ليتذكَّروا بأنَّ الجسَد والعقل يعملان بكفاءةٍ تامَّة خلالَ ساعات الصيام، وأنَّ إمكان تحمُّلِ الجوع والعطَش لفترات طويلة، والبقاء في حالةٍ ذِهنية أكثر صفاءً، وحالة جسديَّة، أكثر انتعاشًا وخِفَّة.وهذا الاكتشاف الذي يتكرَّر مع كلِّ قدوم للشَّهْر المبارك هو الخلاص مِن الوقوع في الدَّيَّانة الاستهلاكية، التي أصيبتْ بها بعضُ المجتمعات، والتي أصبح فيها (السّوبر ماركت) هو مكان عبادتها الجديد،
وفي الختام نودُّ أن نؤكِّد حقيقةً مُسلَّمة: وهي أنَّه لا بدَّ مِن بناء الإنسان المستهلِك باعتِدال.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة