لواء وطيار
العضة التي غيّرت حياة صاحبها..
في خلال عودتي من باريس إلى الرياض، جلس بجنب مقعدي شخص نحيف الجسم، خفيض الصوت، دمث الأخلاق، حسن المحيا. سلمتُ عليه، وتعرفتُ عليه، وأخبرني بأنهُ من اليمن الشقيق، ويعمل في المملكة العربية السعودية، في تجارة العطور، مظهرهُ يدل على الغنى، لديه مزرعة وبيت جميل في اليمن. وبعد أن دار الحديث معي ومعه، سرد لي قصته مع الغنى والفقر، فقال:
(غادرت بلادي اليمن إلى المملكة ولي من العُمر اثنتا عشر عاماً، أتذكر جيداً ذلك اليوم حين ودعت والدتي وإخوتي الصغار، رأيتُ والدتي تبكي لأول مرة، وتستحلف الرجال أن يهتموا بي، وجمعتْ ما تستطيع من مال قليل، ودستّه في جيبي، مشيت حافياً وسرتُ مع القافلة، نمشي في النهار ونستضيف أهل الخير في الليل. وصلت إلى مدينة (جازان) على حدود المملكة الجنوبية، حيث يعمل عمي هناك، يمتلك محلاً صغيراً يبيع فيه المستلزمات اليومية، ويساعده ابنه الأكبر الذي يكبرني بثلاث سنوات.
بقيت هناك سنتين، وفي إحدى المرات سقط من يدي مصباح وتهشّم، فنهرني ابن عمي، وحين رددت عليه مدافعاً عن نفسي؛ هجم عليّ بغضب، وعضني في فروة رأسي، وعلقني بين الأرض والسماء، وكأنه تمساح أطبق على فريسته، كنت صغير الجسم نحيلاً، سالت الدماء على ثوبي الوحيد، ولم ينتصر لي أحد، حتى عمي؛ فتملكني الغضب، وخرج المارد من القمقم، بدأت أفكر في الخروج من ذلك المتجر إلى الفضاء الواسع الرحب.
غادرت مدينة (جازان) إلى الرياض دون أن أخبر أحد، أخذتُ معي ملابسي القليلة ودراهم قليلة كانت معي. وصلتُ الرياض بعد ثلاثة أيام من السفر على الطرق الوعرة، بدأت أعمل في أي مهنة أجدها، كنت أتعلم بسرعة. عملت في التجارة بصبر وأمانة أجيراً لدى الآخرين، كان لدي هدف أريد تحقيقه، وهو أن أمتلك متجراً خاص بي مثل عمي، ويكون لدي من المال ما يكفي ويزيد؛ لأبعث به لوالدتي، لأنني منذ غادرت اليمن لم أبعث لها بشيء أبداً.
عملت عند رجل كريم من أهل الرياض وأخبرته بما أنا عازم عليه، فشجعني كثيراً. افتتحتُ محلاً صغيرا خاص بالعطور، أعمل فيه ليل نهار، كنتُ أراهُ ينمو ويكبر كل يوم. اتسع المحل التجاري، ووظفت فيه من يساعدني، حينها اتسع الأفق أمامي، دخلتُ في شراكة مع آخرين، تعلمت خلالها الكثير. وقعت خلالها في كبوات لم تزدني إلا قوة وإصراراً، وانتقلتُ من حسنٍ إلى إحسن.
وكما ترى الآن، أتيت من باريس، وقبلها بعدة أسابيع كنت في الصين، وبعد أسبوع سأتوجه إلى موسكو).
ثم أكمل حديثه قائلاً لي: [إن كل ما حصل لي من خير، وما أصبتُ من نجاح، كان بسبب تلك المشاجرة والعضة بشكل خاص، وها هي آثارها موجودة تذكرني بقسوة الحياة، وكأنها تقول لي: 'أنا سبب خروجك من مكانك الآمن، قد كنت فاتحة خير لك، حيثُ خلصتك من التبعية والاعتماد على الغير، ومكاني قريب من مخك؛ لذلك أيقظتهُ من سباته'. ثم أمال رأسه نحوي وأراني أثر العضة].
وأقول لكل شخص: "قد يحدث ما تعتقده شراً لك؛ لكن تتيقن بعدها بفترة أن هذا الذي حدث لك هو الذي غير حياتك للأفضل وأخرج أفضل ما فيك. فقط انظر دائماً إلى الجانب الإيجابي من كل مصيبة تحدث لك، وسترى فيها خيراً كثيراً؛ فالله سبحانه لا يُقدر لعبده إلا ما هو خيرٌ له".
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة