الاعتصام المسلح
فوهة سوداء ومقبض تملأ به راحة يدك، زناد مِطواع بضغطة واحدة يطلق كوامن تلك القطعة التي تحرص عليها، لا أنت فقط، وإنما كل أقرانك، بطل أنت إن كان بحوزتك أكثر من هذا، شرر صغير وأعواد صفراء قصيرة تحدث فرقعات مدوية.
بارود مخلوط بحجارة صغيرة للغاية ملفوفة في ورق مقوى ومحكومة بأسلاك حديدية تلقيها بخفة في ساحة النزال فتحدث صوتا انفجاريا محببا لنفسك، هكذا كنا جميعا صغارا لا يفرح الصبي منا بأكثر من مسدس أو بندقية، ولا يحرص في الأعياد والمناسبات إلا على اقتناء علب المفرقعات والبمب الصغير، الذي لا يكترث معه لنصيحة مكررة من والديه بألا يحرق النقود التي معه في الهواء.
وربما حتى لو ولدت في مكان آخر من نفس الزمن لوجدت في مبادئ دستورك من يكفل لك حق حمل سلاحك ويدافع عنه، لربما انتخبت ترامب لأنه لن يسلبك أحد حقوقك الشخصية، أو نزلت إلى الجنوب في صعيد مصر أو إلى الجبال في اليمن، أو إلى الصحراء في سيناء أو ليبيا، أو إلى أي عرب ما زالوا في الضواحي يعيشون على بعد أميال من الحواضر والمدن، أو كنت صغيرا أو كبيرا تعيش في غزة ما بعد الحسم، أو يهوديا في أي شبر من إسرائيل، أو تركيا يقف في شرفته بآليته يترقب جنود الانقلاب، فإن كل أولئك لم يسلبهم أحد سلاحهم كما سُلبت أنت.
لم أسمع كل الحكايات التي سلبت الناس سلاحهم الذي به تقوم حياتهم وحريتهم، لكنني سمعت على الأقل واحدة بالغة الهول، عندما كان الباشا الألباني يؤسس جيش مصر، فيجمع السلاح من الأهالي بيد ويقتاد الشباب للتجنيد باليد الأخرى، يجمع سلاح الأهالي الذي ما زالت آثار دماء الفرنسيين والإنجليز تقطر منه، الذي بسببه لم يمكث الفرنسيون في أرض مصر سوى ثلاث سنوات وهبت ريح الخندق تفلح خيامهم من كل جانب، ولم يستطع الإنجليز دخولها في مطلع القرن التاسع عشر، جمعه وأنشأ المدارس الحربية، وقال للناس هذا الجيش من الآن سيتولى حمايتكم.
لكن الجيش لم تكن هذه مهمته، حارب بعيدا هنا وهناك في الحجاز والشام والسودان واليونان، وعندما حانت اللحظة بعد عقود طويلة لأن يدافع عن أرض مصر خسر المعركة، واحتل الإنجليز مصر، لا عامين أو ثلاثة، بل 8 عقود، احتلالا هينا لينا لشعب بلا سلاح، غايته أن يتظاهر ويناضل على طاولات المفاوضات!
كان سلاح الرجل منا قائما خلف باب بيته، اقتحموا الباب وأخذوا السلاح، أعطوه لجندي يقف أمام الباب، الجندي هرب من النزال، الجندي سلم السلاح للأعداء، الجندي مات شهيدا أمام الباب، في كل هذه الأحوال سيدخل عليك العدو وأنت عاريا مستباحا لا قوة لك ولا منعة.
تذكرني هذه القصة بعباس، ليس اليقظ الحساس، ذلك عباس أحمد مطر وإن كان قريب الشبه بصاحبنا، لكنه عباس الذي ينادي بجمع السلاح من المقاومين وتسليمه لسلطته، نعم فالسلطة هي المخولة الأمن وهي وحدها من لها حق حمل السلاح، والناس.. والفلسطينيون، سنسلم من يقاوم منهم الإسرائيليين، حتى يعيش العدو في أمان، هل يستيقظ فتى من غزة يوما ويجد نفسه بلا كلاشنكوف، ربما تستطيع من اليوم التالي أن تجتاح إسرائيل كامل القطاع.
كان العربي القديم يتعجب ويقول (أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال)، أنى لمثله أن يُقتل والسيف في جنبه حال نومه وصحوه، أما نحن بعد تطاول القرون، عندما ثرنا مرة أو مرتين هنا وهناك، خرج السلاح الذي كاد يصدأ من مخابئه، وصب علينا صبا من كل مكان، ونحن لا عاصم لنا اليوم ولا في الغد.
لم تكن "رابعة" اعتصاما، ولم يكن "مسلحا"، لقد كان مجرد تجمع عارٍ، ولسنا ننفي عنه التسلح هنا لأننا نكره السلاح أو نتطهر منه، بل هو حق من حقوقنا الإنسانية المسلوبة، وإن لجنة حقوق الإنسان كان حريا بها أن تمر على رابعة لتتأكد من وجود سلاح يحميه إذا أراد بكل هؤلاء أحد سوءا، ولو كان بها لفكر المعتدون ألف مرة قبل الإقدام.
ولسنا نحب السلاح ولا نسعى له في هذا الزمن النكد، لأن الأفكار لم تتغير بعد وطريقنا مع وعي الناس ما زال طويلا، ولأن ترسانة أصغر دولة في المنطقة قادرة على إفناء أي مجموعة مسلحة مهما كانت قدراتها -ولنا في جماعات السبعينيات الإسلامية كل العبر- ولأن من وراء كل دولة وكل نظام من هؤلاء ترسانات مفتوحة تنبئك سوريا القريبة بها.. إننا فقط نتمسك بحقوقنا ونحاول أن نحافظ على بقايا عقولنا، وننعى حالنا، ونسب كبراء مجرمينا الذين نزعوا منا السلاح ثم قيدونا في الجدار وناموا أمام أعيننا كالعواهر في فراش كل عدو لهم ولنا!
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة