كاتب وباحث
حلب.. ولم نندم على الكرامة
هناك.. تحت الأرض، في الرطوبة والعتمة والهدوء الرهيب، مع فأس ورفيق، كان يحفر نفقاً، ربما للتفجير أو للتسلل أو للإمداد، حسبما تختار المعركة حينها، تفاصيل الخاتمة لا تعنيه ما دام الطريق واحداً وهو يحفر نفقاً إلى الحرية.
وفي النفق المجاور، كان يجلس من فقد ستة من إخوانه شهداء يتحدث بيقين عن معركة قادمة، وبجانبه من فقد أربعة، ومن فقد اثنين، وبصمت كان يستمع من أعدّ نفسه للفقد العظيم كي يجد أهله طريقاً للهواء.
"ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة.. ليمرّ النور للأجيال مرّة"
وفوق غابة الأنفاق والمرابطين في العتمة، كانت الأرض القيامة.. هنا حلب، أخطر مدن العالم، وأجمل مدن العالم، فقيرة بالغذاء، غنية بالرجال.
بين كل مجزرتين، تطبخ أم لأبنائها الميتين عمّا قليل، ويجهّز مقاتل جعبته لخندق سيغدو قبراً للأعداء.. أو لنفسه، وتحفر مقابر عاجلة بين البيوت والحدائق، وتزفّ عروس لشهيد قادم، ويلعب الأولاد بجدية عابثة لعبة الحرب، ويولد طفل بعينين من ثأر وغضب، وتستكمل الحرية نشيدها السعيد في قلوب الثائرين..
وقريباً جداً من حافة المذبحة، كانت تمر حياة العالم وأهلها بحالتها العادية جداً.. بعاديّتها المرعبة! وجربنا جميع أنواع الموت، ومسارات الشظايا، وخيارات الركام، واحتمالات الأشلاء، وأشكال الفجيعة، وألوان الدم، وأعداد الضحايا، ودروب الشهادة، وبعد أيام.. بعد شهور.. بعد سنين في المذبحة، وقفنا وسط المقبرة الشاسعة بلامبالاة.. ضاحكين -بكامل جذوة القلب- للحرية العظيمة.
في مجزرة مدرسة ما، وبعدما انتُشلت أشلاء الإرهابيين الصغار، بقي جسد طفلة عالقاً تحت أنقاض البناء، بقيت أمها وأبوها أسبوعاً واقفين أمام الركام بينما تزيحه القبعات البيض، ولما وجدوا في النهاية جسد الطفلة القتيل ارتاحوا.. فرحوا.
وفي مجزرة مدرسة ما، كانت المعلمتان معاً على المقعد أمام الطلبة الصغار في درس الظهيرة، وبعد ثانيتين كاملتين، كانت المعلمتان معاً على المقعد نفسه.. بلا رأسين.. بلا طلبة.
وفي مجزرة مدرسة ما، على الأرض الحافلة بالموت والأشلاء، تمدد جسد الطفلة بسكينة هادئة، والدم انساب فوق الوشاح.. قانياً حتى دفتر الرسم المفتوح على جملة ملونة "أنا أحب سوريا".. وكانت سوريا تدفن المحبين بلا ملل.
وفي مجزرة قادمة، سوف نخبر الضحايا أن يموتوا متأنقين، وأن يتركوا احتياطاً بجانبهم كاميرات دقيقة، ربما تحتاجهم أوراق صحيفة توزع مع شاي الصباح، وسوف نخبر النساء أن يكتبن في وصاياهن المعطرة اقتباسات من سيمون دو بوفوار، حتى يصبح لموتهنّ معنى في حديث المنظمات والوزيرات الجدد، وسوف نخبر الطفل القتيل أن يدوّن عشر مرات في دفتر الرسم عن الفارق الدقيق بين مجلس الأمن والإرهاب، ولكننا سنخبر الناجي الوحيد من الرحيل الكبير بالحقيقة الوحيدة: كم أنت وحدك.
وبينما كنّا نموت، والمذبحة تهيم على رؤوس الناس، والموت يأتينا بكلّ سلاحه البري والجوي والبحري، كانت الإبادة المعلنة مجرد بند محتمل في غرف المؤتمرات، وكانت المذبحة كأي فعل سياسي تُطرح بهدوء للنقاش أو التعديل أو المساومة، كانت مذبحة أنيقة وشرعية وحديثة كما يليق بالدول الكبرى، ولم تكن فعل تنظيمات صغرى أو خطاب جهاديين كلاسيكيين لكي تصبح -عند الخبراء- من "الإرهاب".
وكانت الدول التي وزعت الشعارات الأخلاقية والإنسانية على شعوب الأرض قروناً، تتباحث بجدية عن حجة بليغة أو تبرير علميّ دقيق للمذبحة الكبرى، كأن يكون ثمة فرد بين كل ألفين ينتمي لفصيل يكرهونه.
وكانت أرومتنا الكبرى وقومنا العرب الأقحاح مشغولين بجداول الكرة والغاز، ولم يتجاوز أحد الزعماء المحترمين أناقته وهدوءه الحكيم كي يستنكر أو يدين أو يشجب موتنا العلني، كانت حتى كلمات المواساة أكثر مما يستحق الميتون.
وقد يسألوننا مرة أخرى: هل كانت تستحق الحرية كل هذا الموت؟!
ولكن السؤال الأجدى بعد هذا الموت: هل عالمٌ بكل هذا العار يستحقّ الحياة حقاً؟!
إن حربنا طويلة لأن جيل الظلم طويل.. ولا تقف الثورة عند شخص أو معركة أو مدينة، قضيتنا حق ثابت وطريقٌ طويل، وأمانةُ شعب من الشهداء وحقّ جيل قادم بالحرية والكرامة، وستدومُ ما دام الظلم.
قد يعيش الآخرون في سكينة العائلة والمدن الهادئة والترف الجميل، دون حصار أو قصف أو موت سريع في الطرقات، ولكنهم لا يعرفون أن طعم الحرية أجمل من كل ذلك.
ولم نندم على الكرامة.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة