كاتبة سوريّة وإعلامية، في مصر، مشرفة على موقع (إنسان جديد)
زهايمر... لكنه جميل!
تقول لي ساخرة: لقد أصاب والدتي زهايمر جميل!! وعندما استغربتُ تعبيرها، وضَّحتْ لي فقالت: لقد بدأتْ والدتي تنسى الأحداث والمواقف الجديدة. أعلم أن حالتها صارت صعبة، وصرتُ أتكبَّد الكثير من العناء في إعادة الكلام، والاستماع لنفس الحديث عدَّة مرات، وفي تذكيرها بأمورٍ جرت أو فعلتها قبل قليل، ولكنَّ أمراً جميلاً حدث بسبب نسيانها، وجعلني أتعلَّم منه درساً بليغاً، فوالدتي صارت تنسى المواقف كلها الجيدة منها والسيئة، ونسيانها للمواقف السيئة عاد عليها وعلى مَن حولها بخيرٍ كبيرٍ.. فقد كانت والدتي تحفظ الإساءة، وتعيدها وتحكيها لكلِّ مَن حولها، وتحتقن بسببها، وتدعو على مَن فعلها، وتنام باكية، وتستيقظ متوتِّرة، وتلبث عدَّة أيام تحكي في الموضوع نفسه، وتشعر بالألم وتبكي، وتكاد تَميَّز غيظاً وحزناً وغِلاً، ولا تتوانى عن ردِّ الإساءة بمثلها أو بأكثر منها. نعم هكذا كانت أمي قبل أن تمرض، ولكنها صارت اليوم تنسى، فبَعد ساعات من حدوث الموقف، تبدو بحال عادية جداً، وكأنَّ شيئاً لم يكن، تُتابع يومها هنيَّة النفْس، هادئة الجوارح، تلفُّها السكينة، وتغشاها المودَّة. الأمر الذي انعكس إيجاباً على مَن يعاملها، وعلى مَن تعيش معهم، فصاروا أكثر لطفاً معها، وأكثر احتراماً لها، وأكثر حنوّاً عليها...
تُتابع كلامها فتقول: صرتُ أقول في نفسي ليتها كانت هكذا قبل مرضها؟ ليتها كانت تسامح وتغفر ولا يطول الغضب في نفسها، ولا ينال من أعصابها وجوارحها كما كان يحدث من قبل، كم كانت ستعيش مرتاحة!! وخصوصاً مع الإساءات غير المقصودة أو التي يمكن تصحيحها...
مع كلامها تذكرتُ الحكمة التي تقول:
اكتب الإساءة على الرمال عسى رياح التسامح تمحوها، وانْحتِ المعروف على الصخر ليبقى مهما مرَّت به عواصف أو رياح...
التسامح هو تلك الخَصلة التي تسمو بها النفْس من براثن الأحقاد فتصفو وترتاح، أمَّا الحقد فيرمي بصاحبه في أَتون نارٍ تحرقه وتُحيل علاقاته إلى رماد...
التسامح هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة منتصراً فاتحاً قادراً على الانتقام، فإذا به يقول لكُفار مكة كلمته الخالدة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
التسامح هو ما فاضت به نفس سيدنا يوسف عليه السلام عندما ارتفع شأنه وصار عزيز مصر، وعاد إليه إخوته مذعنين له مقرِّين بفضله يخشون انتقامه، فإذا به يعفو ويغفر وهو يقول: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم).
يوضِّح جيرالد جامبو لكسي في كتابه «التسامح أعظم علاج على الإطلاق» أسباباً تقدِّمها النفْس كمُبرِّرات لعدم المسامحة، وتتجلَّى هذه الأسباب في أفكار تُراود صاحبها وهي:
(إذا سامحتُ فسيكرِّر المسيء إساءته، إذا سامحتُ فأنا ضعيف، إذا سامحتُ فكأني وافقتُ المسيء على ما فعل، المسامح شخص قليل القيمة وضعيف المكانة لذا لن أسامح، عدم المسامحة خطوة ضروريَّة لأنال حقي...)!
في الوقت الذي يؤكِّد سبحانه وتعالى أنَّ الدفع بالَّتي هي أحسن تجعل العدوَّ صديقاً، فالإحسان يجذب قلب الإنسان، يجعله لا يكرِّر الإساءة...
والتسامح مع أهميته ليس أمراً سهلاً، إنه مرتبة أخلاقيَّة ونفسيَّة عالية لا يصل إليها الإنسان إلا بعد مراحل من تدريب النفْس وترويضها، وهذه المراحل تعتمد في كلٍّ منها على الأفكار، فالأفكار وحدها التي توجِّه المشاعر وتشكِّل السلوك.
وفيما يلي بعض الأفكار التي علينا تذكُّرها وترديدها عند كل موقف يترك في نفوسنا انزعاجاً وهذه الأفكار هي:
1- أنَّ الإنسان جُبِل على الخطأ، وما من أحدٍ معصوم.
2- ليس بالضرورة أن تكون الإساءة مقصودة.
3- التماس الأعذار واجبٌ إنسانيٌّ.
4- العفو والمسامحة أمر ديني أوصانا به الله تعالى ونبيُّه[، قال سبحانه: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
وكلنا يذكر القصة: عندما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه سيطلع عليهم رجل من الجنة، فطلع عليهم رجل، فتبِعه عبد الله بن عمرو ونزل بضيافته ليلتين، فما وجده كثير صيام ولا كثير صلاة، وعندما سأله بماذا وصل عند الله إلى تلك المرتبة؟ قال له: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي غِلّاً لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه.(أحمد في مسنده)
5- التسامح يمنح صاحبه سعادة في النفس وصحة في الجسم.
فماذا لو سامحنا ولم ننتظر أن نصل لسنٍّ يجبرنا دماغنا فيه على نسيان الإساءة؟ ماذا لو تسلَّحنا بالقوَّة اللازمة لنعفو عن المسيء؟ فنعيش في رحابة العفو ونجد في قلوبنا سعة تقدِّر الخطأ ولا تقابله بخطأ أكبر منه، وخصوصاً أنَّ عفونا عن المخطئين والمسيئين سببٌ موجب لعفو الله عنا ومغفرته لذنوبنا، يقول سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة