سلمي لنا على رسول الله يا أمينة
وكأن قدرنا نحن قساة القلوب أن لا نذكر أحبابنا ولا نشعر بمكانتهم إلا عندما يفارقونا بدون رجعة، لقد فارقتنا أمينة اليوم فيا حزني عليك يا أماه
في أول مرة حزمت حقائبي لأسافر كنت مراهقا صغيرا، وقصدت زيارة مدينة رسول الله لأنزل عند عمي وكبير عائلتنا الأستاذ الدكتور أحمد الخراط، ذلك الرجل العظيم الذي لم أكن رأيته في حياتي لأن نظام البعث قد منعه من زيارة مدينته حلب، وصلت للمدينة المنورة وكان هناك كثير مما لفت نظري وأحببته كطفل، ولكن امرأة واحدة ظلت عالقة في ذهني سنوات بعدها، لأنني أحببتها كأمي من أول لقاء
.
تلك كانت زوجة عمي الحبيبة أمينة عمر الخراط، كان أجمل ما رأيت فيها تلك الطيبة والحنان والحب الذي يشع من عينيها، ولكني عندما عرفت قصة حياتها وما صنعت تلك المرأة زاد حبي لها وليتحول إلى إعجاب واقتداء، فلم يكن في خيالي أن امرأة قد تصل لكل ذلك الكمال والجمال
.
ولنبدأ الحكاية من أولها ... أمينة فتاة حلبية أصيلة، خطبها ابن عمها أحمد الذي كان يبدأ حياته بكلية الآداب في جامعة حلب في الستينيات طالبا ثم مدرسا للغة العربية في ثانويات حلب، لم يكن يملك الكثير ولكنه كان نشيطا ومنخرطا بالكامل في الحراك العلمي والدعوي الذي كان يملئ جامعات حلب ومساجدها في تلك الأيام الجميلة
.
أمينة بكل رحابة صدر بدأت حياتها بغربة مبكرة جدا حين رافقت زوجها في رحلته الأولى إلى مصر ليتابع دراسة الماجستير في جامعة القاهرة، وعلى ضيق الحال كانت نِعم الزوجة ومن توفر لزوجها السعادة من أبسط الأمور،
ورزقت أمينة بابنها الأول بلال، ولكن الامتحان بدأ مبكرا لأمينة الصابرة فقد كانت صحة بلال تتدهور بشكل متسارع ويصاب بالشلل عضوا بعد آخر، ولم يجدوا لهذا المرض من دواء في كل مكان قصدوه، صبرت أمينة وصابرت وحاولت أن توفر لزوجها كل ما تستطيعه من استقرار نفسي ليتابع دراسته الصعبة، وبما يتوفر لهم من موارد محدودة جدا
.
وبعد سنوات قرر عمي البحث عن عمل لأنه يحتاج لدخل يصرف على نفسه وأسرته، فترك مصر قاصدا السعودية للعمل في مدينة بعيدة في غياهب الصحراء كمدرس، وتقول أمينة الصابرة وصلنا لتلك المدينة ولم يكن عندنا حتى أبسط مقومات الحياة، ولكننا صبرنا واجتهدنا وكبرت العائلة وأصبح عندها ولدين وبنت
واستمرت مسيرة التنقل والسفر من مكان لآخر ومن بلد لأخرى، وبعد مسيرة طويلة وصعبة حصل عمي على الدكتوراه بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة في تخصص إعراب القرآن وقراءاته، وكان هذا الانجاز الكبير موقعا بيد أمينة ذلك الجندي المجهول الذي يعمل بصمت
.
وكأن الأفراح لا تتم على البشر (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فقد رزقت امرأة عمي بالولد الرابع وكانت بنتا ولكنها أيضا أصيبت بنفس المرض الذي أصاب أخاها الكبير وهو الشلل الكامل بلا علاج معروف في كل الدنيا، وتَعجب من نفسك ما هذه الأمينة أي امرأة أنت، فعندما قابلتها لأول مرة كانت قمة في النشاط تخدم أولادها المعاقين بكل صدر رحب، وترتب بيتها بكل إتقان نساء حلب وهوسهم بالنظافة، وتطبخ لنا كأنها طباخة محترفة، وتجيب طلبات عمي قبل حتى أن يتكلم
.
والعجيب أنها بعد كل هذا تأوي لكتبها لتؤلف وتحقق، فهي من كتبت في سلسلة أعلام المسلمين الصادرة من دار القلم، كتبا عن (أم سلمة، وأم عمارة، وأم المؤمنين زينب، وأم المؤمنين حفصة بنت عمر، وأم سليم)، وحققت (كتاب أخلاق العلماء للإمام الآجري)، وكتاب (منية المصلي وغنية المبتدي في الفقه الحنفي) وغيرها من الأعمال، كما كانت عونا لعمي في أعماله البحثية وفي إنتاجاته العلمية التي جاوزت ثلاثين مجلدا، وحاز عليها عددا من الجوائز منها جائزة أفضل كتاب إسلامي من جامعة اكسفورد البريطانية
.
بالله عليك يا أمينة يا أمي بعد أمي من أين لك كل تلك الهمة، وكأن مجاورتك للحبيب المصطفى وحبك له قد أمدك بطاقة يعجز عنها البشر، وها هو ابنك حذيفة طبيبا جراحا في أكبر مشافي السعودية، وبنتك زلفى دكتورة في الشريعة تكمل مسيرتك وتدرس في الجامعات، وكل أولادك حفظة لكتاب الله، فهنيئا لهم ولك هذا الشرف الكبير والتاج من النور
.
لقد كنت دائما أتتبع أخبارك وأتعلم منك حتى حين ودعت ابنك بلال بكل رضا وتسليم، وكيف كانت فرحتك وشكرك لله لزواج كل أولادك ورؤية أحفادك يكبرون أمامك وقد دخل أكبرهم الجامعة من أشهر قليلة،
ولكن .. وكم أصحبت أكره لكن هذه، وكأن الفرحة ليس من شيمتها أن تكتمل على إنسان، فقد هالني سماع خبر مرضك الشديد، ولكنه لم ينل من عزيمة أمنا أمينة فصبرت وشكرت وقالت بلسان حالها: لقد قدمت لكم كل ما أستطيع حتى آخر يوم من حياتي فأرجوكم سامحوني وأسلموني للبقيع فأنا مشتاقة لجوار حبيبي رسول الله
ألف سلام عليك، وألف تحية لروحك الطاهرة، فأنا أكتب هذه الكلمات ونعشك متوجه إلى مسجد رسول الله ليصلي عليك الآلاف عند منبر رسول الله، فحق علينا جميعا أن نقف وننحني لجلال أخلاقك وعظيم أعمالك، ولا يخفف عنا إلا ما قاله رسول الله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)
.
وأنت يا غالية قد جمعت كل المحاسن، صدقات جارية لا يعلمها إلا رب كريم، وكتب وعلم انتفع به كثير من المؤمنون، وأولاد صالحون ناجحون سيدعون لك طويلا جدا
.
ربما كان يجب أن نبكي عليك طويلا، ولكننا كموحدين نؤمن أن هذه الحياة التي نعيشها ما هي إلا دار مرور يتزود العاقل فيها بجميل العمل والعطاء، ليرجع إلى جنة عرضها السموات والأرض لا حزن فيها ولا مرض، ولا غربة ولا ظالمين، دار السعادة الأبدية والتي تليق بروحك الطاهرة،
سلمي لنا على رسول الله وعلى جدي وجدتي وبلال جيرانك في البقيع، وحلب ستشتاق لك ولكنها سترضى لأنك دُفنت بجوار الحبيب محمد
.
وارفعوا رأسكم يا آل الخراط جميعا، فهذه أمينة سيدة بيت الخراط قد زُفت لجوار الحبيب المصطفى كما أرادت وأحبت. هنيئا لكم ولها
.
ابنك المشتاق
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة