الإسلام والإنسانية في فكر ابن باديس
كتب بواسطة إحسان الفقيه
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
2505 مشاهدة
«لمن أعيش أنا»؟ «أعيش للإسلام والجزائر». عندما يكون السائل والمجيب شخصا واحدا، فلا ريب أن المقام مقام تعليم وتوجيه، ألا إنّ المعلم هنا، هو الإمام الثائر عبد الحميد بن باديس، رائد النهضة الحديثة في المغرب العربي، ومؤسس الحركة الإصلاحية بالجزائر.
بينما كنت أطالع آثار ابن باديس، وقعت عيني على تفاصيل محاضرة ألقاها ذلك العلامة على أعضاء جميعة التربية والتعليم الإسلامية، وتتناول العلاقة بين الإسلام والإنسانية من زاوية عميقة تتناسب مع عمق فكرته، ويزاوج بين هذا الكائن البشري الذي كرّمه الله في العموم «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»، وبين خصوصية اصطفائه بحمل رسالة الإسلام.
ذلك لأن الإسلام ليس له كوكب خاص به، إنما هو رسالة عالمية، تتحمل عبء رعاية الإنسانية والعمل من أجلها، يتعدى في ذلك نطاق معتنقيه، إلى العناية بالكائن البشري بصفة عامة.
لقد كان تحرير الإنسانية من ربقة الظلم والاضطهاد والتمييز، أحد مفردات رسالة الإسلام وغاياتها التي عبر عنها ربعي بن عامر بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
ينطلق ابن باديس في تحرير هذه العلاقة من التأكيد على خدمة الإنسانية واحترامها استئناسا بالتذكير القرآني بوحدة الأصل والتكوين «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى» فهم جميعا في الشرف ـ بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء ـ سواء، كما نصّ على ذلك الإمام ابن كثير.
ثم يمضي ابن باديس في استشفاف غاية التعارف البشري من خلال قوله تعالى «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، مع الأخذ في الاعتبار أن الإيمان هو السمة المميزة والمعيار الأوحد في تفاضل البشر «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
ويؤسس رائد النهضة المغربية لتلك العلاقة بين الإسلام والإنسانية بقوله «لكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة، فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع».
ولطبيعة الإسلام التي تحترم النوع الإنساني، وتفرض العدل والقسط دون انتقائية مدفوعة باختلاف الجنس واللون والدين والعرق، إضافة إلى كونه دين الفطرة، يؤكد ابن باديس على أن الإسلام دين الإنسانية الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأن خدمة هذه الإنسانية لا تكون إلا على أصوله، ويقرر أن إيصال النفع للبشرية لا يكون إلا من طريقه، فمن ثم كانت خدمة الإسلام ونشر هدايته، هي في حقيقتها خدمة للإنسانية وسعيا من أجل سعادتها وخيرها في جميع الأجناس والأوطان.
فالعمل إذن للإسلام ونهضة المسلمين، في الحقيقة ليس انعزالا عن واقع الإنسانية أو وضع حدود فاصلة معها، إنما هو بناء إنساني متكامل، بشرط أن يقدم نموذج الإسلام الصحيح في نسخته الأولى.
وتلك هي النظرة التي تتفق مع عالمية الإسلام ومع كونه دين رحمة وتسامح لا يكره الناس على اعتناقه، وعلى ذلك يمتد نفعه وثمره إلى ما وراء جغرافيته.
إن تحرير هذه العلاقة يضع حدا فاصلا بين مسلكين كلاهما أكثر ظلامية من الآخر، أولهما ذلك الاتجاه الذي ينزع إلى الانفصال عن العالمية وإغفال حقيقة كون الأمة الإسلامية جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الإنسانية على كوكب الأرض.
وثانيهما اتجاه يدفع إلى الذوبان وإهدار خصائص وميزات الفكرة الإسلامية، تحت مظلة التعايش البشري، ومن ثم أُقصيت المبادئ التي يفترض أن ينطلق منها المسلمون لخدمة الإنسانية.
انسحبت تلك النظرة الباديسية الامتدادية، إلى تحرير علاقة أخرى بين الوطنية وبين الإقليمية أو العالمية، فهو يرى أن شخصية المسلم جزء لا يتجزأ من وطنه وأرضه، منه استمد مقوماته الشخصية، وأن هذه الروابط تفرض عليه أن يكون رافدا مباشرا لخدمة ذلك الوطن وإيصال النفع إليه.
غير أن امتداد أفق ابن باديس وانسيابية نظرته للحياة، تجعله يرى أن خدمة الوطن تحمل في ذاتها خدمة ممتدة إلى الأوطان القريبة التي يرتبط معها وطنه بصلات العقيدة واللغة والأخلاق والتاريخ والمصلحة، إلى أن تصل إلى وطن الإنسانية العام.
فهو يرى أن خدمة الوطن والعمل على رفعته هي خدمة لأوطان أخرى قريبة وبعيدة، وذلك على اعتبار أن موجات النهوض والرقي تجتاز الحدود، وتؤثر في المحيط الإقليمي.
خدمة الوطن الإنساني العام عند ابن باديس، لا يمر إلا من خلال السعي لرفعة الوطن الخاص، وفي ذلك يقول: «ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر. وما مثُلنا في وطننا الخاص ـ وكل ذي وطن خاص ـ إلاّ كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيع بيته فهو لما سواه أضيع».
إنه لمن الأهمية بمكان، تحرير العلاقة بين الشخصية الإسلامية والمنظومة الكونية، وفهم مصطلحات تلك العلاقات، وفق المنهج الرباني، بلا غلو أو تفريط، بدون تمييع أو تكلف، وبعيدا عن التنطع وضيق الأفق والنظرة الضيقة السطحية الانتقائية لنصوص الشريعة.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن